النبأ اليقين عن العلويين
للشيخ المرحوم محمود الصالح
توطئة و تمهيد
لم تكن في العلويين كتابة خاصة تفيد الفائدة المرجوة عن تاريخهم و الأدوار التي مرت بهم, و إذا وجد عنهم بعض النتف المبعثرة فقلما تكون الحقيقة ذاتها, لأن التحامل السياسي كان يطبع صور الحوادث
بطابع خاص منطبق ضرورة على نزعات الساسة و أهوائهم, مما جعل التاريخ يعمي الحقيقة أو يغمض فيها.
و المتأمل المنصف يرى بثاقب بصره و نفاذ بصيرته ما ذاق العلويون في ماضيهم الرهيب من ألوان العسف و ضروبه, و يعاين ما عانوه في مراحل حياتهم الغابرة من مظالم سلبتهم حق مركزهم في الهيئة
الاجتماعية, و لكنها ما استطاعت و لن تستطيع أن تسلبهم تراثهم الخالد(عروبتهم ودينهم) .
فالعلويون عرب لا شك في عروبتهم من رزق حسن الانتفاع بالاطلاع على مضامين السير و التاريخ, و استفاد من معرفة ما تحققه أقوالهم و أفعالهم من جميل الصفات في العرب الأكرمين, إذ تبين- و لا ريب-
من متابعة مجريات أوضاعهم و أحوالهم أنهم رغم ما نزل بهم من كوارث و ألمّ بهم من مظالم كانوا و ما زالوا يحتفظون بكل ما تصدق عليه مفاهيم العروبة الإسلامية من أخلاق و خلائق, و عادات و تقاليد
و حسبهم بينة على أصالة دمهم العربي أنسابهم المنتهية بالتنوخي, و الغساني, و الكندي, و الطائي, و التغلبي, و غيره, و كفى بها شاهداً عدلاً لثبوت عروبتهم و دحض أكاذيب المرجفين المغرضين.
هاجر العلويون إلى هذه البلاد من مختلف أنحاء الجزيرة العربية مع من هاجر إليها من العرب قبل الإسلام و بعده فرادى و جماعات, انتجاعاً للكلأ و الماء, و لجوءاً إلى هذه المعاقل الحصينة من جور الطغمة
الحاكمين غير العرب, فكانت هجرتهم سياسية و اقتصادية و على أكثر من دفعة واحدة
ذكر الأستاذ (منير الشريف) في كتابه (العلويون من هم و أين هم) فقال:
{ لم تكن هجرة العرب الذين سموا بالعلويين مؤخراً إلى جبالهم على مرة واحدة, بل على عدة مرات جماعات و أفراداً, وهجرتهم جماعات كانت على ست مرات على ما أعتقد, الهجرة الأولى, قبل المسيح و
محمد(ص) و بين عهديهما, و الثانية, بعد محمد في عهد الفتح العربي الإسلامي, أي في سنة(13هـ) و (636م) و ما بعدها, و الثالثة, في القرن الخامس للهجرة بعد ظهور مذهب النصيرية و البلاء الذي صُب
على الذين اعتنقوه و ذلك من قبل الحكام المسلمين غير العرب, و الرابعة, في أوائل القرن السابع للهجرة في زمن الأمير(حسن بن مكزون), و الخامسة, في النصف الثاني من القرن السابع للهجرة بعد الحملة
الكسروانية سنة(1305م), و الهجرة السادسة, كانت عند اجتياح(ياوز سلطان سليم التركي) للبلاد, سنة(923هـ) و (1516م), و بين هذه الهجرات العامة كانوا يهاجرون أفراداً إلى الجبل طلباً للرزق أو هرباً
من الضغط و العذاب للاحتماء بأبناء طائفتهم هناك} انتهى.
و لقد فصّل العلامة المطران(دبس) في كتابه(الجامع المفصل) و أوضح المؤرخ(عيسى اسكندر المعلوف) في كتابه(دواني القطوف) ما حدث لعلويي لبنان في حوادث سنة(1305م) و هجرة بعضهم إلى جبال
اللاذقية و إنطاكية, احتماء بإخوانهم فيها من عوادي رجال(محمد بن قلاون من سلاطين المماليك البحرية) و قد أمرهم بإبادة الطوائف الشيعية في جبال
(كسروان) من لبنان, إذ كانوا أصحاب البلاد آنئذ.
استوطن العلويون هذه البلاد قديماً و اتخذوا الإسلام الحنيف ديناً, و ولاء آل البيت الطاهرين مذهباً, و لوجود فجوة من جفاء بين المسلمين العرب بسبب الفارق المذهبي السني و الشيعي, وجد اللا مسلمون ودخلاء
الإسلام من الشعوبيين مغمزاً لبث مفاسدهم في جسم الوحدة الإسلامية, فعملوا على إيجاد ثغرة أبعد مدى و أقرب هلكة, ينفذون منها إلى نيل غاياتهم و يبسطون بها سلطانهم,فسلك بعض الدخلاء مذهب التشيع
وانتحى بعضهم مذهب التسنن, مظهراً كل منهم تمسكه بمذهبه الذي انتحله و تعلقه الشديد به, و كلهم معاول هدامة في بناء وحدة الأمة, و عن هذه الطريقة تمكن أولئك الانتهازيون من نفث سموم التفرقة و زرع
بذور الشقاق, فانهال بعض المسلمين على بعض بأقسى قوارص التهم التي لا تزال بقاياها مستحكمة في عقول الجهلة, و مصطنعة في نفوس المرتزقة و المغرضين, و كم بين هؤلاء و أولئك من يظن بالعلويين
و يحوك لهم من نسيج الأباطيل ما تضيق به نفوسهم و أحسامهم, فيخرج بهم عن رقبة الإسلام معتمداً على قلة وجود الجوامع في أوساط قراهم, و هو يجهل أو يتجاهل الأسباب التي حدت بهم إلى التقاعس عن
القيام بواجبهم الديني و إعلان شعائرهم الإسلامية على الوجه الأكمل, و لكن المتحرر من آثار التعصب الأثيم الواقف على سير أوضاعهم المؤلمة يعلم يقيناً مبلغ تمسكهم بأحكام الدين الحنيف و أخذهم بتعاليم
الشريعة الغراء, و يشهد على ضوء الحقيقة بإسلامهم و إيمانهم, إذ أي المنصفين تتبع الحوادث التاريخية و وقف على التشريد المرير الذي أعقبه فيهم مجازر السلطان(سليم العثماني) الرهيبة و لا يدرك الحقيقة
الراهنة التي حالت بينهم و بين بنائهم الجوامع و قيامهم بالشعائر العلنية, تلك الفظائع المنكرة التي يندى لها جبين الإنسانية خجلا و حياء, و التي درج عليها ولاة الأمر بعده و كفل إحياءها في النفوس ساسة تلك
العصور المظلمة الذين فتحوا آذانهم لاستماع أكاذيب الدساسين, من لا هم لهم إلا إذكاء الفتنة في صدور الأمة فقصفوا بأبعاد العلويين عن حظيرة المجتمع, و ألزموهم نكران ذواتهم بما ألحقوه بهم من عواد و
مقتريات, حتى أن أحدهم كان لا يستطيع الظهور على مسرح الحياة معلناً تشيعه, و لا ذنب لهم إلا صدق ولائهم لأئمتهم الطاهرين(ع) و إلا أصالة دمهم العربي أراد أولئك الشعوبيين تقديمه قرباناً على مذبح
العنصرية إرضاء لعواطفهم الحقيرة, و لم يكن العلويون وحدهم غاية أولئك الجائرين بل العنصر العربي كله, و لكن العلويين أمسوا كبش المحرقة, فقد أرغموهم بما ألحقوه بهم على كتمان ولائهم و سموا ذلك
باطنية إسكاتاً لإخوانهم العرب عامة على التنكيل بهم, و اتخذوا من صدق حبهم و محض ولائهم لأئمتهم المعصومين حافزاً لإخوانهم اللا شيعيين خاصة على النيل منهم, و ما نقموا منهم إلا أن آمنوا بعروبتهم و
حق آل بيت نبيهم, و تمسكوا بحبل ولائهم.
ذلك الولاء الذي أسرف أعداؤه إلحاق الأذى بالأبرياء من أنصاره, و أفرط أهل البدع بالدس على الخلصاء من تابعيه, و بديهي أن يكون العلويون و هم من أوليائه
المخلصين بعض ضحايا أولئك المعتدين المفترين, الذين تفننوا بأساليب الكيد لهم و الانتقام منهم, فلفقوا عليهم التهم و اختلقوا عليهم الأكاذيب, و اتخذوا من باطل ما
نخروه عليهم ذريعة للإيقاع بهم,و لم تكن تلك الدسائس المحوكة و المكايد المدبرة التي أحكم فتل حبالها المغرضون, إلا خطة مرسومة غايتها تجريح العلويين في
معتقداتهم ليستحيل عند الاعتداء عليهم وجود من يرحمهم في الأمة أو يرثي لهم.
و غير خفي أن الطعن في معتقد الفئة المناوئة لأصحاب السلطان كان في تلك العصور من الأساليب السياسية المبررة لأعمالهم الوحشية فيها و سوء معاملتهم إياها.
و هكذا فقد دس في أوساط العلويين تنفيذاً لخطة الطعن و التجريح مرجفون من غواة الفرق البائدة التي من الظلم نسبتها إلى الشيعة, ممن يسمونهم غلاة الشيعة, الذين
آن لرقعة الأرض أن تتخلص منهم فلا أحسب أن فيها اليوم منهم أحداً, و لم يأن للشيعة و خاصة(العلويين) أن يتخلصوا من وباء ادعائهم و فساد آرائهم, و أن
يخلصوا من أرجاف منافقيهم الذين تسنى لهم تخلل صفوف العلويين و الامتزاج بهم, خلال ما مروا به من مراحل شاقة و تجارب قاسية, و ساعد أولئك المرجفين
تقهقر العلويين في ميدان الثقافة و الاجتماع على إتمام فكرتهم الخبيثة و القيام بدعوتهم السيئة كما أرادها لهم أئمة الجور و قادة الفتن.و ما أصدق ما علله عن واقع
الشيعة الراهن فضيلة الشيخ(محمد جواد مغنية) رئيس المحكمة الشرعية الجعفرية في بيروت في كتابه(علي و القرآن) حيث يقول:
{وغريبة الغرائب أن كل شيء في الدنيا قد تغير إلا الكذب على الشيعة و الافتراء على مذهب التشيع, منذ زمن مضى و انقضى كتب شيخ سوء أو فقيه شر, أن
الشيعة بما فيهم الإمامية يغالون بعلي, أنهم أخذوا دينهم عن ابن سبأ اليهودي, رمى هذا المفتري رميته و مضى, و لكن بعد أن شق طريق الضلال و التضليل, و إليك
ملخص القصة لهذا الافتراء و السبب الباعث عليه, كان الشيعة يثورون على حكام الجور إخلاصاً لدينهم و أمتهم, و كان هؤلاء ينعتونهم بالزندقية و المروق من
الدين, لأنهم لا يدينون لهم بالولاء تماماً, كما يتهم بعض حكام هذا العصر القوي التحررية بالشغب و التخريب, و إذا وجدت السلطات المعتدية في عصر النور صحفاً
مأجورة تساندها و تنعت الحزب المعارض بأقبح النعوت تزلفاً و طمعاً, فبالأحرى أن تجد في عصر الظلمات من يضع لها الكتب و المؤلفات في تكفير الشيعة, هكذا
فعلوا تماماً كما يفعلون اليوم.
لقد اشترى السفاكون من أرباب الأقلام دينهم و ضمائرهم ليقولوا على الأبرياء الأقاويل, و يعلم كل من البائع و المشتري أنه مفتر كذاب, و جاء المتأخر فرأى الكلمة
المطبوعة(للسلف الصالح) فقدسها و ركع لها و سجد دون تمحيص و تحقيق, و أخذ يرددها فكرة و أسلوباً بل نقلها بالحرف الواحد كأنها وحي منزل.
إن العالم المنصف إذا تكلم عما تدين به طائفة من الطوائف اعتمد على الكتب المعتبرة عندها, و ما ثبت من مذهبها, أما النقل عن خصومها, و بخاصة خصومة
العقيدة و المذهب فهو تماماً كالحكم على المدعى بمجرد إقامة الدعوى و قبل الاستماع إلى الشهود و البينات}
و من المسلم به أن الحكم على المعتقدات صحة أو فساداً من أقوال غير أصحابها ظلم صريح لا تقبله العقول السليمة و لا ترضاه النفوس الحرة, و من تدبر بحكمته
حكم أولئك الجائرين على معتقد العلويين تبينه من هذا الباب لبنائه على تقول غيرهم فيهم لا على ما قالوه في أنفسهم, فإن الذين يكتبون عنهم يأخذون في الغالب ما
يكتبون عمن لا صلة لهم بمعرفة مذهبهم و أحوالهم كالشهر ستاني,و ابن تيمية, و ابن حزم, و أمثالهم, و من زعم من كتاب العصر أنه أسدى إليهم معروفاً فتوسع
بمعرفتهم و بالبحث و التنقيب عنهم رجع إلى كتب الغربيين و كتبة الأجانب, كالكاتبين الفرنسيين,الكاتبين (بييرمي) في كتابه(العلويون) و الكولونيل(بول جاكو) في
كتابه(دولة العلويين) و غيرهما من المستشرقين رجال الدس و الفساد.
و هل في المستشرقين من يكتب عن المسلمين إلا و يرمي إلى أحد غرضين أو إليهما معاً, أحدهما ديني, و غايته إقامة الشبهات حول معتقدات بعض الفرق الإسلامية
حملاً للبعض الآخر على كراهتهم و الإساءة إليهم, و إضعافاً للملكات العقائدية فيهم, ليتسنى للمبشرين الوصول إلى عقول بسطاء الأمة و سذاجها, و ثانيهما
استعماري, و غايته بعث الضعف و الوهن في نفوس العرب و المسلمين و بث روح التجزئة و الانقسام فيهم, تصديعاً لكيان بناء وحدتهم, و تبديداً لشمل كلمتهم
ليتمكن الاستعمار من التغلغل في صفوفهم و الشيوع في أقطارهم و بسط نفوذه عليهم و تحكمه بمرافق بلادهم
و على كلا الحالين و بقدر اتساع شقة الخلاف في العرب و المسلمين ينفسح المجال أمام المستعمرين و المبشرين..
للشيخ المرحوم محمود الصالح
توطئة و تمهيد
لم تكن في العلويين كتابة خاصة تفيد الفائدة المرجوة عن تاريخهم و الأدوار التي مرت بهم, و إذا وجد عنهم بعض النتف المبعثرة فقلما تكون الحقيقة ذاتها, لأن التحامل السياسي كان يطبع صور الحوادث
بطابع خاص منطبق ضرورة على نزعات الساسة و أهوائهم, مما جعل التاريخ يعمي الحقيقة أو يغمض فيها.
و المتأمل المنصف يرى بثاقب بصره و نفاذ بصيرته ما ذاق العلويون في ماضيهم الرهيب من ألوان العسف و ضروبه, و يعاين ما عانوه في مراحل حياتهم الغابرة من مظالم سلبتهم حق مركزهم في الهيئة
الاجتماعية, و لكنها ما استطاعت و لن تستطيع أن تسلبهم تراثهم الخالد(عروبتهم ودينهم) .
فالعلويون عرب لا شك في عروبتهم من رزق حسن الانتفاع بالاطلاع على مضامين السير و التاريخ, و استفاد من معرفة ما تحققه أقوالهم و أفعالهم من جميل الصفات في العرب الأكرمين, إذ تبين- و لا ريب-
من متابعة مجريات أوضاعهم و أحوالهم أنهم رغم ما نزل بهم من كوارث و ألمّ بهم من مظالم كانوا و ما زالوا يحتفظون بكل ما تصدق عليه مفاهيم العروبة الإسلامية من أخلاق و خلائق, و عادات و تقاليد
و حسبهم بينة على أصالة دمهم العربي أنسابهم المنتهية بالتنوخي, و الغساني, و الكندي, و الطائي, و التغلبي, و غيره, و كفى بها شاهداً عدلاً لثبوت عروبتهم و دحض أكاذيب المرجفين المغرضين.
هاجر العلويون إلى هذه البلاد من مختلف أنحاء الجزيرة العربية مع من هاجر إليها من العرب قبل الإسلام و بعده فرادى و جماعات, انتجاعاً للكلأ و الماء, و لجوءاً إلى هذه المعاقل الحصينة من جور الطغمة
الحاكمين غير العرب, فكانت هجرتهم سياسية و اقتصادية و على أكثر من دفعة واحدة
ذكر الأستاذ (منير الشريف) في كتابه (العلويون من هم و أين هم) فقال:
{ لم تكن هجرة العرب الذين سموا بالعلويين مؤخراً إلى جبالهم على مرة واحدة, بل على عدة مرات جماعات و أفراداً, وهجرتهم جماعات كانت على ست مرات على ما أعتقد, الهجرة الأولى, قبل المسيح و
محمد(ص) و بين عهديهما, و الثانية, بعد محمد في عهد الفتح العربي الإسلامي, أي في سنة(13هـ) و (636م) و ما بعدها, و الثالثة, في القرن الخامس للهجرة بعد ظهور مذهب النصيرية و البلاء الذي صُب
على الذين اعتنقوه و ذلك من قبل الحكام المسلمين غير العرب, و الرابعة, في أوائل القرن السابع للهجرة في زمن الأمير(حسن بن مكزون), و الخامسة, في النصف الثاني من القرن السابع للهجرة بعد الحملة
الكسروانية سنة(1305م), و الهجرة السادسة, كانت عند اجتياح(ياوز سلطان سليم التركي) للبلاد, سنة(923هـ) و (1516م), و بين هذه الهجرات العامة كانوا يهاجرون أفراداً إلى الجبل طلباً للرزق أو هرباً
من الضغط و العذاب للاحتماء بأبناء طائفتهم هناك} انتهى.
و لقد فصّل العلامة المطران(دبس) في كتابه(الجامع المفصل) و أوضح المؤرخ(عيسى اسكندر المعلوف) في كتابه(دواني القطوف) ما حدث لعلويي لبنان في حوادث سنة(1305م) و هجرة بعضهم إلى جبال
اللاذقية و إنطاكية, احتماء بإخوانهم فيها من عوادي رجال(محمد بن قلاون من سلاطين المماليك البحرية) و قد أمرهم بإبادة الطوائف الشيعية في جبال
(كسروان) من لبنان, إذ كانوا أصحاب البلاد آنئذ.
استوطن العلويون هذه البلاد قديماً و اتخذوا الإسلام الحنيف ديناً, و ولاء آل البيت الطاهرين مذهباً, و لوجود فجوة من جفاء بين المسلمين العرب بسبب الفارق المذهبي السني و الشيعي, وجد اللا مسلمون ودخلاء
الإسلام من الشعوبيين مغمزاً لبث مفاسدهم في جسم الوحدة الإسلامية, فعملوا على إيجاد ثغرة أبعد مدى و أقرب هلكة, ينفذون منها إلى نيل غاياتهم و يبسطون بها سلطانهم,فسلك بعض الدخلاء مذهب التشيع
وانتحى بعضهم مذهب التسنن, مظهراً كل منهم تمسكه بمذهبه الذي انتحله و تعلقه الشديد به, و كلهم معاول هدامة في بناء وحدة الأمة, و عن هذه الطريقة تمكن أولئك الانتهازيون من نفث سموم التفرقة و زرع
بذور الشقاق, فانهال بعض المسلمين على بعض بأقسى قوارص التهم التي لا تزال بقاياها مستحكمة في عقول الجهلة, و مصطنعة في نفوس المرتزقة و المغرضين, و كم بين هؤلاء و أولئك من يظن بالعلويين
و يحوك لهم من نسيج الأباطيل ما تضيق به نفوسهم و أحسامهم, فيخرج بهم عن رقبة الإسلام معتمداً على قلة وجود الجوامع في أوساط قراهم, و هو يجهل أو يتجاهل الأسباب التي حدت بهم إلى التقاعس عن
القيام بواجبهم الديني و إعلان شعائرهم الإسلامية على الوجه الأكمل, و لكن المتحرر من آثار التعصب الأثيم الواقف على سير أوضاعهم المؤلمة يعلم يقيناً مبلغ تمسكهم بأحكام الدين الحنيف و أخذهم بتعاليم
الشريعة الغراء, و يشهد على ضوء الحقيقة بإسلامهم و إيمانهم, إذ أي المنصفين تتبع الحوادث التاريخية و وقف على التشريد المرير الذي أعقبه فيهم مجازر السلطان(سليم العثماني) الرهيبة و لا يدرك الحقيقة
الراهنة التي حالت بينهم و بين بنائهم الجوامع و قيامهم بالشعائر العلنية, تلك الفظائع المنكرة التي يندى لها جبين الإنسانية خجلا و حياء, و التي درج عليها ولاة الأمر بعده و كفل إحياءها في النفوس ساسة تلك
العصور المظلمة الذين فتحوا آذانهم لاستماع أكاذيب الدساسين, من لا هم لهم إلا إذكاء الفتنة في صدور الأمة فقصفوا بأبعاد العلويين عن حظيرة المجتمع, و ألزموهم نكران ذواتهم بما ألحقوه بهم من عواد و
مقتريات, حتى أن أحدهم كان لا يستطيع الظهور على مسرح الحياة معلناً تشيعه, و لا ذنب لهم إلا صدق ولائهم لأئمتهم الطاهرين(ع) و إلا أصالة دمهم العربي أراد أولئك الشعوبيين تقديمه قرباناً على مذبح
العنصرية إرضاء لعواطفهم الحقيرة, و لم يكن العلويون وحدهم غاية أولئك الجائرين بل العنصر العربي كله, و لكن العلويين أمسوا كبش المحرقة, فقد أرغموهم بما ألحقوه بهم على كتمان ولائهم و سموا ذلك
باطنية إسكاتاً لإخوانهم العرب عامة على التنكيل بهم, و اتخذوا من صدق حبهم و محض ولائهم لأئمتهم المعصومين حافزاً لإخوانهم اللا شيعيين خاصة على النيل منهم, و ما نقموا منهم إلا أن آمنوا بعروبتهم و
حق آل بيت نبيهم, و تمسكوا بحبل ولائهم.
ذلك الولاء الذي أسرف أعداؤه إلحاق الأذى بالأبرياء من أنصاره, و أفرط أهل البدع بالدس على الخلصاء من تابعيه, و بديهي أن يكون العلويون و هم من أوليائه
المخلصين بعض ضحايا أولئك المعتدين المفترين, الذين تفننوا بأساليب الكيد لهم و الانتقام منهم, فلفقوا عليهم التهم و اختلقوا عليهم الأكاذيب, و اتخذوا من باطل ما
نخروه عليهم ذريعة للإيقاع بهم,و لم تكن تلك الدسائس المحوكة و المكايد المدبرة التي أحكم فتل حبالها المغرضون, إلا خطة مرسومة غايتها تجريح العلويين في
معتقداتهم ليستحيل عند الاعتداء عليهم وجود من يرحمهم في الأمة أو يرثي لهم.
و غير خفي أن الطعن في معتقد الفئة المناوئة لأصحاب السلطان كان في تلك العصور من الأساليب السياسية المبررة لأعمالهم الوحشية فيها و سوء معاملتهم إياها.
و هكذا فقد دس في أوساط العلويين تنفيذاً لخطة الطعن و التجريح مرجفون من غواة الفرق البائدة التي من الظلم نسبتها إلى الشيعة, ممن يسمونهم غلاة الشيعة, الذين
آن لرقعة الأرض أن تتخلص منهم فلا أحسب أن فيها اليوم منهم أحداً, و لم يأن للشيعة و خاصة(العلويين) أن يتخلصوا من وباء ادعائهم و فساد آرائهم, و أن
يخلصوا من أرجاف منافقيهم الذين تسنى لهم تخلل صفوف العلويين و الامتزاج بهم, خلال ما مروا به من مراحل شاقة و تجارب قاسية, و ساعد أولئك المرجفين
تقهقر العلويين في ميدان الثقافة و الاجتماع على إتمام فكرتهم الخبيثة و القيام بدعوتهم السيئة كما أرادها لهم أئمة الجور و قادة الفتن.و ما أصدق ما علله عن واقع
الشيعة الراهن فضيلة الشيخ(محمد جواد مغنية) رئيس المحكمة الشرعية الجعفرية في بيروت في كتابه(علي و القرآن) حيث يقول:
{وغريبة الغرائب أن كل شيء في الدنيا قد تغير إلا الكذب على الشيعة و الافتراء على مذهب التشيع, منذ زمن مضى و انقضى كتب شيخ سوء أو فقيه شر, أن
الشيعة بما فيهم الإمامية يغالون بعلي, أنهم أخذوا دينهم عن ابن سبأ اليهودي, رمى هذا المفتري رميته و مضى, و لكن بعد أن شق طريق الضلال و التضليل, و إليك
ملخص القصة لهذا الافتراء و السبب الباعث عليه, كان الشيعة يثورون على حكام الجور إخلاصاً لدينهم و أمتهم, و كان هؤلاء ينعتونهم بالزندقية و المروق من
الدين, لأنهم لا يدينون لهم بالولاء تماماً, كما يتهم بعض حكام هذا العصر القوي التحررية بالشغب و التخريب, و إذا وجدت السلطات المعتدية في عصر النور صحفاً
مأجورة تساندها و تنعت الحزب المعارض بأقبح النعوت تزلفاً و طمعاً, فبالأحرى أن تجد في عصر الظلمات من يضع لها الكتب و المؤلفات في تكفير الشيعة, هكذا
فعلوا تماماً كما يفعلون اليوم.
لقد اشترى السفاكون من أرباب الأقلام دينهم و ضمائرهم ليقولوا على الأبرياء الأقاويل, و يعلم كل من البائع و المشتري أنه مفتر كذاب, و جاء المتأخر فرأى الكلمة
المطبوعة(للسلف الصالح) فقدسها و ركع لها و سجد دون تمحيص و تحقيق, و أخذ يرددها فكرة و أسلوباً بل نقلها بالحرف الواحد كأنها وحي منزل.
إن العالم المنصف إذا تكلم عما تدين به طائفة من الطوائف اعتمد على الكتب المعتبرة عندها, و ما ثبت من مذهبها, أما النقل عن خصومها, و بخاصة خصومة
العقيدة و المذهب فهو تماماً كالحكم على المدعى بمجرد إقامة الدعوى و قبل الاستماع إلى الشهود و البينات}
و من المسلم به أن الحكم على المعتقدات صحة أو فساداً من أقوال غير أصحابها ظلم صريح لا تقبله العقول السليمة و لا ترضاه النفوس الحرة, و من تدبر بحكمته
حكم أولئك الجائرين على معتقد العلويين تبينه من هذا الباب لبنائه على تقول غيرهم فيهم لا على ما قالوه في أنفسهم, فإن الذين يكتبون عنهم يأخذون في الغالب ما
يكتبون عمن لا صلة لهم بمعرفة مذهبهم و أحوالهم كالشهر ستاني,و ابن تيمية, و ابن حزم, و أمثالهم, و من زعم من كتاب العصر أنه أسدى إليهم معروفاً فتوسع
بمعرفتهم و بالبحث و التنقيب عنهم رجع إلى كتب الغربيين و كتبة الأجانب, كالكاتبين الفرنسيين,الكاتبين (بييرمي) في كتابه(العلويون) و الكولونيل(بول جاكو) في
كتابه(دولة العلويين) و غيرهما من المستشرقين رجال الدس و الفساد.
و هل في المستشرقين من يكتب عن المسلمين إلا و يرمي إلى أحد غرضين أو إليهما معاً, أحدهما ديني, و غايته إقامة الشبهات حول معتقدات بعض الفرق الإسلامية
حملاً للبعض الآخر على كراهتهم و الإساءة إليهم, و إضعافاً للملكات العقائدية فيهم, ليتسنى للمبشرين الوصول إلى عقول بسطاء الأمة و سذاجها, و ثانيهما
استعماري, و غايته بعث الضعف و الوهن في نفوس العرب و المسلمين و بث روح التجزئة و الانقسام فيهم, تصديعاً لكيان بناء وحدتهم, و تبديداً لشمل كلمتهم
ليتمكن الاستعمار من التغلغل في صفوفهم و الشيوع في أقطارهم و بسط نفوذه عليهم و تحكمه بمرافق بلادهم
و على كلا الحالين و بقدر اتساع شقة الخلاف في العرب و المسلمين ينفسح المجال أمام المستعمرين و المبشرين..
يتبع...........................