الفصل الثالث
الأدوار التاريخية التي تعاقبت على العلويين في كتاب النبأ اليقين
سبق أن قلنا أن كلامنا عن العلويين يتناولهم منذ قيام الدولة الحمدانية في حلب, و لذا نرى لزاماً علينا التبسيط في معرفة نشأة تلك الدولة و العصر الذي نشأت فيه, و معرفة مدى قوتها و اتساع حدودها و عظمة رجالها.
لقد تكلم المجتهد الأكبر السيد( محسن الأمين) أعلا الله مقامه, عن الدولة الحمدانية في كتابه( أبو فراس الحمداني) ما نصه:
كان عصر الحمدانيين عصراً قد انقسمت فيه المملكة الإسلامية المترامية الأطراف إلى ممالك و إمارات جلها غير عربية, فكانت خراسان وما والأهابيد السامانيين, و ما وراء النهر بيد الغزنويين
و كلتا الدولتين غير عربية, و بغداد و فارس بيد البويهيين و هم من الفرس, و الخلافة العباسية في بغداد لا حول لها و لا طول, و إنما لها الخطبة و المشاركة في السكة في البلاد الإسلامية الشرقية
و الشام و مصر بيد الإخشيديين و هم أتراك و إفريقيا و المغرب بيد الفاطميين, و الأندلس بيد الأمويين.
فأنشأ الحمدانيين مملكة إسلامية عربية في الموصل و ديار بكر و ديار ربيعة و الجزيرة و حلب و العواصم إلى لبحر المتوسط شمالاً, و إلى مملكة الروم و قاعدتها القسطنطينية شرقاً
و إلى فلسطين و دمشق غرباً
فردوا غارات الروم و أغاروا على بلادهم و فتحوا كثيراً منها و الروم يومئذ في قوتهم, و قهروا القرامطة و الخوارج الشراة كهارون الشاري و غيرهم, و تسلطوا على الأكراد و أخضعوهم
و أخضعوا قبائل العرب المنتشرة في الجزيرة و بادية الشام صاحبة العدد الكثير و القوة و أدخلوها في طاعتهم, و حاربوا الإخشيديين في الشام و أخذوا منهم دمشق
ثم عادوا إليها بمخامرة أهلها,و كانت هذه المملكة منقسمة بين ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان, و أخيه سيف الدولة على بن عبد الله بن حمدان
و كان لناصر الدولة الموصل و الجزيرة, و لسيف الدولة حلب و العواصم و ما إليها, و كان ناصر الدولة لا يخلو من منازعة البويهيين له
و سيف الدولة يحارب الروم غالباً,و سيد بني حمدان و رئيسهم سيف الدولة, و وزيره و قائده الأول و محل اعتماده في الحروب و قيادة الجيوش و حماية المملكة أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان
و لم يكن سيف الدولة و أبو فراس طالبي ملك صرف و إمارة محضة, بل كان لهما باعث ديني و غيرة وطنية يبعثها على حماية المملكة و حفظها
فسيف الدولة يجمع من غبار غزواته للروم التي كان يقصد منها رد عاديتهم عن بلاده
لبنة و يوصي أن توضع تحت رأسه في قبره, و أبو فراس يقول لسيف الدولة:
فأحوط للإسلام أن لا يضيعني.................... و لي عنه فيه حوطة و مثاب
و إن رجلاً كسيف الدولة و ابن عمه أبي فراس يستطيعان إنشاء دولة قوية عربية إسلامية نمت في ظلها العلوم العربية و الإسلامية و الأدب العربي نمواً فائقاً في عصر تفككت فيه عرى الإسلام و العروبة
و في بقعة محاطة بالروم من جهة و بالإخشيديين و البويهيين الأقوياء من جهات أخرى, و مشحونة في داخلها بدعايات القرامطة و الخوارج و فتنهم, و بغزوات الأكراد و القبائل العربية و فسادهم
لرجلان فريدان عظيمان خلّد التاريخ ذكرهم في صفحاته بالعز و الفخر. انتهى
***************************
ذكر الملك سيف الدولة و بعض وقائعه و غزواته
وُلد الملك سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان العدوي التغلبي, سنة ثلاث و ثلاثمائة(هـ) في بيت يكتنفه المجد و تحيط به عزة الإمارة, و ما إن بلغ أشده حتى اعتلا ذروة الفخار
فملك( واسطاً) و نواحيها, ثم تقلبت
به الأحوال فملك(حلب الشهباء) و اتخذها قاعدة ملكه بعد أن انتزعها سنة ثلاثمائة و ثلاثٍ و ثلاثين(هـ) من يد أحمد بن سعيد الكلابي عامل الإخشيديين عليها.
و قد قال فيه أبو الفداء في تاريخه( سيف الدولة أحد الأمراء الشجعان و الملوك الكثيري الإحسان على ما فيه من تشيع, و قد ملك دمشق في بعض السنين, و أتفق له أشياء غريبة, منها: أن شاعره كان أبا الطيب
المتنبي, و منها, أن مطربه أبا نصر الفارابي, و كان سيف الدولة كريماً جواداً معطياً للجزيل, إلى أن قال: وُلد سنة ثلاث و قيل إحدى و ثلاثمائة, و إنه ملك(حلب) بعد الثلاثين و الثلاثمائة, و قبل ذلك ملك(واسطا)
و نواحيها, ثم تقلبت به الأحوال حتى ملك حلب انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الإخشيد) انتهى.
و فيه يقول الثعالبي في يتيمته, كان سيف الدولة رضي الله عنه و أرضاه, و جعل الجنة مأواه, غرة الزمان و عماد الإسلام, و من به سداد الثغور و سداد الأمور, و كانت وقائعه في عصاة العرب تكَف بأسها و تنزع لباسها
و تفل أنيابها و تذل صعابها و تكفي الرعية سوء آدابها, و غزواته تدرك من طاغية الروم الثأر, و تحسم شرهم المثار و تحسن في الإسلام الآثار, و حضرته مقصد الوفود و مطلع الجود, و قبلة الآمال و محط الرحال و موسم
الأدباء و حلبة الشعراء, و يقال أنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر و نجوم الدهر, و إنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها, و كان أديباً محباً لجيد الشعر لجيد الشعر
شديد الاهتزاز له, و من ملح شعره ما قاله في وصف قوس قزح و هو أحسن ما سمعته فيه على كثرته, و هذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها السوقة) و هاك قوله:
و ساق صبيح للصبوح دعوتـــــه...............فقـــــام و في أجفانــــه سنــة الغمــــض
و قد نشرت أيدي الجنوب مطارفـاً ............... على الجود كناً و الحواشي على الأرض
يطوف بكاسـات العقـــار كأنجـــــم...............فمــــن بين منقض علينـــــا و منفـــض
يطرزها قوس الغمــــام بأصفــــــر...............على أحمر في أخضـــــر تحت مبيـــض
كأذيال خــــود أقبلت في غلائـــــــل............... مصبغـــة و البعض أقصـــــر من بعض
قلت: إن هذا الوصف لمما ينطق عليه قول القائل(كلام الملوك ملوك الكلام).
و يقول الشيخ ناصيف اليازجي في تعريف الملك سيف الدولة منذ ذكر إتصاله بالمتنبي في إنطاكية, ملخصاً عن وفيات الأعيان.
(كان سيف الدولة ملكاً على حلب انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي, سنة ثلاثمائة و ثلاث و ثلاثين هــ) و بعد التحدث عن أدبه و اتصال الأدباء به و عرض شيء من شعره قال:
( كانت ولادته سنة ولادة المتنبي و هي سنة ثلاث و ثلاثمائة هـ)
إلى أن قال( و لم يكن في الملوك أغزى منه حتى أنه كان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً و عمل لبنة بقدر الكف و أوصى
أن يوضع خده عليها في لحده فنفذوا) انتهى.
و إحياء لذكرى عظمائنا العرب و ذكر أمجادهم الخالدة نرى لزاماً علينا الإشارة إلى وقائع سيف الدولة الكثيرة, و عرض بعض غزواته المظفرة, فقد وقف نفسه لرد غارات الروم المتكررة على بلاده, و وطّـد عزمه على غزوهم
فلم يكن ليستريح من غزوة حتى يتهيأ لأخرى, و لم يكن لينتقل من فتح إلا إلى فتح ينتظره,و قد توغل في بلاد الروم غازياً فاتحاً حتى غزا (سمندو) و هي التي عرفها الشيخ ناصيف اليازجي في شرح ديوان
أبي الطيب المتنبي عند ذكره إياها بقوله:
رضينا و الدمستق غير راض...............بما حكم القواضب و الوشيــج
فإن يقدم فقــــد زرنا (سمندو) ............... و إن يحجم فموعدنا الخليـــج
قال الشيخ ناصيف اليازجي(سمندو) و يقال لها(سمندوة) قلعة بالروم يقال هي المعروفة اليوم(ببلغراد).
و قال صاحب اليتيمة, يقال أن سيف الدولة غزا الروم أربعين غزوة له و عليه, فمنها: أنه أغار على زبطرة, و غرقة, و ملطية, و نواحيها, فقتل و أحرق و سبى, و انثنى قافلاً إلى,درب موزار, فوجد عليه قسطنطين بن
فردس الدمستق, فأوقع به, و قتل صناديد رجاله و عقب إلى بلدانه, و قد تراجع من هرب منها, فأعظم القتل و أكثر الغنائم و قد عبر الفرات إلى بلد الروم و لم يفعله أحد قبله, حتى أغار على, بطن هنزيط, فلما رأى فردس
بعد مغزاه و خلو بلاد الشام منه, غزا نواحي إنطاكية, فأسرى سيف الدولة لا ينتظر متأخراً و لا يلوي على متقدم حتى عارضه بمرعش, فأوقع به و هزمه و قتل رؤوس البطارقة و أسر قسطنطين بن الدمستق, و أصابت
الدمستق ضربة في وجهه, و أكثر الشعراء في هذه الوقعة, و فيها يقول أبو الطيب المتنبي التي مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا...............و عادة سيف الدولة الطعن في العدا
و قال الشيخ ناصيف اليازجي في ذكر بناء(الحدث) لبنائها, و كان أهلها قد سلموها إلى الدمستق بالأمان سنة سبع و ثلاثين و ثلاثمائة هـ , فنزلها سيف الدولة يوم الأربعاء ثامن عشر جمادي الأخرى سنة ثلاث
و أربعين و ثلاثمائة هـ ,و بدأ من يومه فوضع الأساس و حفر أوله بيده, فلما كان يوم الجمعة نازله ابن الفقاس الدمستق في نحو خمسين ألف فارس و راجل, و وقع القتال يوم الاثنين سلخ جمادي الأخرى من أول النهار إلى
العصر, فحمل عليه سيف الدولة بنفسه في نحو خمسمائة من غلمانه فظفر به و قتل ثلاثة آلاف من رجاله و أسر خلقاً كثيراً فقتل بعضهم و أقام حتى بنى الحدث و وضع بيده آخر شرفة منها, في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة
خلت من رجب, فأكثر الشعراء في هذه الوقعة).
و فيها يقول أبو الطيب قصيدته التي مطلعها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم............... و تأتي على قدر الكرام المكارم
و غزوات سيف الدولة توسيعاً لرقعة ملك العرب في أرض الروم و مواقفه المجيدة ذوداً عن حياض الوطن و ببضة الدين لرد غاراتهم المتكررة الأكثر من أن تستوعبها هذه الصفحات, و قصارى القول أن من الفضول
الإسهاب في تقديم شخصية سيف الدولة إلى القراء و هي التي عرف التاريخ فيها معاني الإجلال و التقدير فسجلها على صفحاته الخالدة الغر بكل فخر و اعتزاز.
***********************
حال العلويين في ذلك العهد و ذكر العهد بعض أمرائهم
في غضون ذلك العهد الميمون أمن الساحل السوري من غوائل الغزاة الإفرنج رغم توالي غزواتهم عليه, و التي كانوا في أيها ينكصون على أعقابهم مذمومين مدحورين بفضل
ما كان من روابط قومية و اجتماعية و أواصر ود و قربى و توثق عرى صداقة و ولاء بين هذا المليك الغازي و بين ولاة ثغور الساحل الأشداء, و بتماسكهم للذود عن
حوضه تماسكهم بالولاء لآل البيت الطاهرين عليهم السلام, و بإجماعهم على حمايته إجماعهم في الأذان على (حي على خير العمل).
فقد كان على إنطاكية الأمير أبو العشائر الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان, و على اللاذقية الأمراء التنوخيون, و في طليعتهم الأمراء, محمد و حسين ابنا إسحاق
التنوخي, و علي و معاذ ابنا ابراهيم التنوخي, و على الجنوب من طرابلس إلى طبرية الأمير أبو الحسن رائق بن خضر الغساني, ثم ابنه الأمير محمد بن رائق المعروف
بأمير الأمراء, و كان عامله على صور و صيدا و مرج عيون الأمير بدر بن عمار بن اسماعيل, و جلهم مدحه المتنبي و قد مر بنا ذكرهم في الفصل الثاني من هذا الكتاب.
و رغم ما حاق بالعلويين في تلك الآونة من نقص في النفوس و في الأموال و الأملاك بسبب صد غارات الروم و غزوات الإفرنج المتتالية من جهة, و العمل لإخماد
الاضطرابات الداخلية كفتن الأكراد و البدو و الخوارج الشراة من جهة ثانية, مما سبب ضعفاً و قلة في العلويين و عددهم, فإن العلوي يعتبر ذلك العهد من أخصب و أمرع
عهود تاريخ حياته, لأن حكمه نفسه بنفسه و استعلاء كلمة دينه و مذهبه على يده كانا ينسيانه آلام القتل و التخريب و مشاق الأسر و الأسفار, و يجددان فيه العزم
و النشاط, فيقبل على الجهاد و التضحية بقوة لا تعرف الخور, و عزائم لا يتسرب إليها الانحلال.
*************************
وفاة الملك سيف الدولة
و في سنة ثلاثمائة و ست و خمسين(هـ) توفي الملك سيف الدولة في حلب و كان سبب موته الفالج, و قيل: عسر البول, و حمل تابوته إلى ( ميافارقين) فدفن فيها, و عمره ثلاث و خمسون سنة.
*************************
قيام الملك سعد الدولة و مقتل أبي فراس
بعد وفاة الملك سيف الدولة قبض على زمام الحكم في المملكة و استولى على مرافق الحياة العامة في الدولة و تولى إدارة الملك و تصريف أمور البلاد بعده
ابنه الملك(سعد الدولة) أبو المعالي شريف, ولكنه لم يتمكن من ضبط أحوال الأمة و لا أحسن التصرف في شؤون الرعية, فلم يستقم له الأمر كأبيه
إذ لم تكن له إرادة أبيه و حكمته, و بدلاً من أن يتفرغ لتوسيع رقعة ملكه و يدفع خطر غارات الروم عن بلاده, وقف نفسه لكبح جماح الأمراء الطامعين بما في أيديهم من إمارات
و لتهدئة الأحوال الداخلية التي أثارها عليه أولئك الأمراء و ساعدهم ضعفه و تهاونه في أمر الرعية, و لا أدل على خرق
سياسته و سوء تدبيره من العمل لقتل خاله و ابن عم أبيه الأمير أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان, الذي قامت على قوائم سيفه عَمدُ مملكة الملك سيف الدولة
و قد اختلف المؤرخون في كيفية قتله, فابن الأثير يقول في حوادث
(357هـ) في هذه السنة في ربيع الآخر قتل أبو فراس بن أبي العلاء سعيد بن حمدان, و سبب ذلك أنه كان مقيماً بحمص فجرى بينه و بين أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان وحشة
فطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فراس إلى (صدد) و هي قرية في طرف البرية عند حمص, فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب و غيرهم, و سيرهم في طلبه مع(قرعويه)
فأدركه بصدد فكبسوه, فاستأمن أصحابه و اختلط هو بمن استأمن منهم, فقال قرعويه لغلام له اقتله, فقتله و أخذ رأسه و تركت جثته في البرية حيث دفنها بعض الأعراب
و لقد صدق من قال(إن الملك عقيم) انتهى.
و قال ابن خالويه في شرح ديوان أبي فراس, لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص فاتصل خبره بأبي المعالي و غلام أبيه قرعويه
فانفذ إليه منت قاتله, إلى أن قال: و بلغني أن أبا فراس رضي الله عنه أصبح يوم مقتله كئيباً و كان قلقاً في تلك الليلة و رأته ابنته امرأَه أبي العشائر و هو على تلك الحال
فأحزنها حزناً شديداً ثم ركب على الحال فأنشأ يقول و رجله في الركاب و الخادم
يضبط عليها السير, و إنما قال ذلك كالذي ينعي نفسه و إن لم يكن من قصده ذلك قال رحمه الله:
أبنيتي لا تحزنــي..................كل الأنــــــام إلى ذهـــــاب
أبنيتي صبراً جميـ ............. ـــلا للجليل من المصــــاب
نوحي علي بحسرة................من خلف سترك و الحجاب
قولي إذا ناديتنــــي................وعييت عن رد الجـــــواب
زين الشباب أبو فرا ................ س لـــم يمتــــع بالشبـــاب
ثم سار فلقي قرعويه فكان من أمره ما كان, و هذا آخر ما قاله من الشعر فيما بلغني , انتهى.
و قال ابن خلكان: ذكر ثابت بن قرة الصابي في تاريخه قال: جرت حرب بين ( أبي فراس ) و كان مقيماً بحمص, و بين ( أبي المعالي شريف بن سيف الدولة)
و استظهر عليه أبو العالي و قتله في الحرب و أخذ رأسه و بقيت جثته مطروحة في البرية إلى أن جاء بعض الإعراب و كفنه و دفنه
و قال غيره: لما قتله قرعويه لم يعلم به أبو المعالي, فلما بلغه الخبر شق عليه,انتهى.
و قال السيد (محسن الأمين) في كتابه: ( أبو فراس الحمداني) و الصواب أن الذي قتله (قرعويه) و أن أبا المعالي لم يعلم بقتله إلا بعد وقوعه إلى أن قال:
و من المؤسف أن يكون أبو فراس الأمير الشجاع
الكبير النفس العالي الهمة العربي الصميم, يقتل بيد غلام مملوك لغلام مملوك, و ما أحسن و أصدق قول المتنبي كما في اليتيمة:
فلا تنلك الليالي أن أيديها................ إذا ضربن كسرن النبع بالغرب
و لا يعن عدواً أنت قاهره ................ فإنهن يصدن الصقر بالخـــرب
*************************
ضعف الدولة الحمدانية و جلاء سعد الدولة عن حلب
بعد مقتل أبي فراس أخذ يدب الضعف و الوهن في جسم الدولة الحمدانية, و تقوى روح الشقاق و التمرد في الرعية, إلى أن بلغ من جراء ذلك أن ثار(قرعويه) الغلام المذكور آنفاً على الملك
سعد الدولة نفسه, سنة (359هـ) و استحوذ على حلب و أخرجه منها خائفاً يترقب, فسار إلى (طرف) و هي تحت حكمه فأبى أهلها أن يمكنوه من الدخول إليهم, فذهب إلى أمه في
(ميافارقين) و أمه بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس, فمكث عندها حيناً, ثم سار إلى (حماه) فملكها و سعى في عمارة (حمص) التي كان خربها ملك الروم سنة(359هـ) فيما خرب
من البلدان الساحلية, كما في تاريخ أبي الفداء و ذلك أن ملك الروم دخل إلى طرابلس فأحرق و سبى و قتل منها خلقاً كثيراً, و كان صاحب طرابلس قد أخرجه منها أهلها لظلمه
فأسره الروم و استحوذوا على جميع أمواله و حواصله و كانت كثيرة جداً ثم مالوا على السواحل فملكوا ثمانية عشر بلداً سوى القرى, و تنصّر خلق كثير على أيديهم
و جاؤوا إلى (حمص) فأحرقوا و نهبوا و سبوا, و مكث ملك الروم شهرين يأخذ من البلاد ما أراد, و يأسر من قدر عليه و صارت له مهابة في قلوب الناس
ثم عاد إلى بلده و معه من السبي نحو من مائة ألف ما بين صبي و صبية, و بعث سرية إلى الجزيرة فنهبوا و سبوا, و عاد الروم إلى إنطاكية فملكوها و قتلوا خلقا كثيراً من أهلها
و ركبوا إلى حلب, و أبو المعالي محاصر قرعويه الذي انتزعه ملكه كما تقدم, فخافهم و هرب عنها, فحاصرها الروم و أخذوا البلد و امتنعت عليهم القلعة, ثم اصطلحوا مع (قرعويه) على هدية و مال يحمله إليهم كل سنة
و سلموا إليه البلد و رجعوا عنه, و في عودة أبي المعالي عن حلب هرباً من ملك الروم رجع إلى عمارة
( حمص) و بعد أن أتم ترميمها سكنها إلى أن كانت سنة (366هـ), اختلفت الأمور على قرعويه فكتب أهل حلب إلى أبي المعالي و هو في حمص أن يأتيهم, فسار إليهم و حاصر (قرعويه)
في حلب أربعة أشهر ثم افتتحها.
الأدوار التاريخية التي تعاقبت على العلويين في كتاب النبأ اليقين
سبق أن قلنا أن كلامنا عن العلويين يتناولهم منذ قيام الدولة الحمدانية في حلب, و لذا نرى لزاماً علينا التبسيط في معرفة نشأة تلك الدولة و العصر الذي نشأت فيه, و معرفة مدى قوتها و اتساع حدودها و عظمة رجالها.
لقد تكلم المجتهد الأكبر السيد( محسن الأمين) أعلا الله مقامه, عن الدولة الحمدانية في كتابه( أبو فراس الحمداني) ما نصه:
كان عصر الحمدانيين عصراً قد انقسمت فيه المملكة الإسلامية المترامية الأطراف إلى ممالك و إمارات جلها غير عربية, فكانت خراسان وما والأهابيد السامانيين, و ما وراء النهر بيد الغزنويين
و كلتا الدولتين غير عربية, و بغداد و فارس بيد البويهيين و هم من الفرس, و الخلافة العباسية في بغداد لا حول لها و لا طول, و إنما لها الخطبة و المشاركة في السكة في البلاد الإسلامية الشرقية
و الشام و مصر بيد الإخشيديين و هم أتراك و إفريقيا و المغرب بيد الفاطميين, و الأندلس بيد الأمويين.
فأنشأ الحمدانيين مملكة إسلامية عربية في الموصل و ديار بكر و ديار ربيعة و الجزيرة و حلب و العواصم إلى لبحر المتوسط شمالاً, و إلى مملكة الروم و قاعدتها القسطنطينية شرقاً
و إلى فلسطين و دمشق غرباً
فردوا غارات الروم و أغاروا على بلادهم و فتحوا كثيراً منها و الروم يومئذ في قوتهم, و قهروا القرامطة و الخوارج الشراة كهارون الشاري و غيرهم, و تسلطوا على الأكراد و أخضعوهم
و أخضعوا قبائل العرب المنتشرة في الجزيرة و بادية الشام صاحبة العدد الكثير و القوة و أدخلوها في طاعتهم, و حاربوا الإخشيديين في الشام و أخذوا منهم دمشق
ثم عادوا إليها بمخامرة أهلها,و كانت هذه المملكة منقسمة بين ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان, و أخيه سيف الدولة على بن عبد الله بن حمدان
و كان لناصر الدولة الموصل و الجزيرة, و لسيف الدولة حلب و العواصم و ما إليها, و كان ناصر الدولة لا يخلو من منازعة البويهيين له
و سيف الدولة يحارب الروم غالباً,و سيد بني حمدان و رئيسهم سيف الدولة, و وزيره و قائده الأول و محل اعتماده في الحروب و قيادة الجيوش و حماية المملكة أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان
و لم يكن سيف الدولة و أبو فراس طالبي ملك صرف و إمارة محضة, بل كان لهما باعث ديني و غيرة وطنية يبعثها على حماية المملكة و حفظها
فسيف الدولة يجمع من غبار غزواته للروم التي كان يقصد منها رد عاديتهم عن بلاده
لبنة و يوصي أن توضع تحت رأسه في قبره, و أبو فراس يقول لسيف الدولة:
فأحوط للإسلام أن لا يضيعني.................... و لي عنه فيه حوطة و مثاب
و إن رجلاً كسيف الدولة و ابن عمه أبي فراس يستطيعان إنشاء دولة قوية عربية إسلامية نمت في ظلها العلوم العربية و الإسلامية و الأدب العربي نمواً فائقاً في عصر تفككت فيه عرى الإسلام و العروبة
و في بقعة محاطة بالروم من جهة و بالإخشيديين و البويهيين الأقوياء من جهات أخرى, و مشحونة في داخلها بدعايات القرامطة و الخوارج و فتنهم, و بغزوات الأكراد و القبائل العربية و فسادهم
لرجلان فريدان عظيمان خلّد التاريخ ذكرهم في صفحاته بالعز و الفخر. انتهى
***************************
ذكر الملك سيف الدولة و بعض وقائعه و غزواته
وُلد الملك سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان العدوي التغلبي, سنة ثلاث و ثلاثمائة(هـ) في بيت يكتنفه المجد و تحيط به عزة الإمارة, و ما إن بلغ أشده حتى اعتلا ذروة الفخار
فملك( واسطاً) و نواحيها, ثم تقلبت
به الأحوال فملك(حلب الشهباء) و اتخذها قاعدة ملكه بعد أن انتزعها سنة ثلاثمائة و ثلاثٍ و ثلاثين(هـ) من يد أحمد بن سعيد الكلابي عامل الإخشيديين عليها.
و قد قال فيه أبو الفداء في تاريخه( سيف الدولة أحد الأمراء الشجعان و الملوك الكثيري الإحسان على ما فيه من تشيع, و قد ملك دمشق في بعض السنين, و أتفق له أشياء غريبة, منها: أن شاعره كان أبا الطيب
المتنبي, و منها, أن مطربه أبا نصر الفارابي, و كان سيف الدولة كريماً جواداً معطياً للجزيل, إلى أن قال: وُلد سنة ثلاث و قيل إحدى و ثلاثمائة, و إنه ملك(حلب) بعد الثلاثين و الثلاثمائة, و قبل ذلك ملك(واسطا)
و نواحيها, ثم تقلبت به الأحوال حتى ملك حلب انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الإخشيد) انتهى.
و فيه يقول الثعالبي في يتيمته, كان سيف الدولة رضي الله عنه و أرضاه, و جعل الجنة مأواه, غرة الزمان و عماد الإسلام, و من به سداد الثغور و سداد الأمور, و كانت وقائعه في عصاة العرب تكَف بأسها و تنزع لباسها
و تفل أنيابها و تذل صعابها و تكفي الرعية سوء آدابها, و غزواته تدرك من طاغية الروم الثأر, و تحسم شرهم المثار و تحسن في الإسلام الآثار, و حضرته مقصد الوفود و مطلع الجود, و قبلة الآمال و محط الرحال و موسم
الأدباء و حلبة الشعراء, و يقال أنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر و نجوم الدهر, و إنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها, و كان أديباً محباً لجيد الشعر لجيد الشعر
شديد الاهتزاز له, و من ملح شعره ما قاله في وصف قوس قزح و هو أحسن ما سمعته فيه على كثرته, و هذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها السوقة) و هاك قوله:
و ساق صبيح للصبوح دعوتـــــه...............فقـــــام و في أجفانــــه سنــة الغمــــض
و قد نشرت أيدي الجنوب مطارفـاً ............... على الجود كناً و الحواشي على الأرض
يطوف بكاسـات العقـــار كأنجـــــم...............فمــــن بين منقض علينـــــا و منفـــض
يطرزها قوس الغمــــام بأصفــــــر...............على أحمر في أخضـــــر تحت مبيـــض
كأذيال خــــود أقبلت في غلائـــــــل............... مصبغـــة و البعض أقصـــــر من بعض
قلت: إن هذا الوصف لمما ينطق عليه قول القائل(كلام الملوك ملوك الكلام).
و يقول الشيخ ناصيف اليازجي في تعريف الملك سيف الدولة منذ ذكر إتصاله بالمتنبي في إنطاكية, ملخصاً عن وفيات الأعيان.
(كان سيف الدولة ملكاً على حلب انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي, سنة ثلاثمائة و ثلاث و ثلاثين هــ) و بعد التحدث عن أدبه و اتصال الأدباء به و عرض شيء من شعره قال:
( كانت ولادته سنة ولادة المتنبي و هي سنة ثلاث و ثلاثمائة هـ)
إلى أن قال( و لم يكن في الملوك أغزى منه حتى أنه كان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً و عمل لبنة بقدر الكف و أوصى
أن يوضع خده عليها في لحده فنفذوا) انتهى.
و إحياء لذكرى عظمائنا العرب و ذكر أمجادهم الخالدة نرى لزاماً علينا الإشارة إلى وقائع سيف الدولة الكثيرة, و عرض بعض غزواته المظفرة, فقد وقف نفسه لرد غارات الروم المتكررة على بلاده, و وطّـد عزمه على غزوهم
فلم يكن ليستريح من غزوة حتى يتهيأ لأخرى, و لم يكن لينتقل من فتح إلا إلى فتح ينتظره,و قد توغل في بلاد الروم غازياً فاتحاً حتى غزا (سمندو) و هي التي عرفها الشيخ ناصيف اليازجي في شرح ديوان
أبي الطيب المتنبي عند ذكره إياها بقوله:
رضينا و الدمستق غير راض...............بما حكم القواضب و الوشيــج
فإن يقدم فقــــد زرنا (سمندو) ............... و إن يحجم فموعدنا الخليـــج
قال الشيخ ناصيف اليازجي(سمندو) و يقال لها(سمندوة) قلعة بالروم يقال هي المعروفة اليوم(ببلغراد).
و قال صاحب اليتيمة, يقال أن سيف الدولة غزا الروم أربعين غزوة له و عليه, فمنها: أنه أغار على زبطرة, و غرقة, و ملطية, و نواحيها, فقتل و أحرق و سبى, و انثنى قافلاً إلى,درب موزار, فوجد عليه قسطنطين بن
فردس الدمستق, فأوقع به, و قتل صناديد رجاله و عقب إلى بلدانه, و قد تراجع من هرب منها, فأعظم القتل و أكثر الغنائم و قد عبر الفرات إلى بلد الروم و لم يفعله أحد قبله, حتى أغار على, بطن هنزيط, فلما رأى فردس
بعد مغزاه و خلو بلاد الشام منه, غزا نواحي إنطاكية, فأسرى سيف الدولة لا ينتظر متأخراً و لا يلوي على متقدم حتى عارضه بمرعش, فأوقع به و هزمه و قتل رؤوس البطارقة و أسر قسطنطين بن الدمستق, و أصابت
الدمستق ضربة في وجهه, و أكثر الشعراء في هذه الوقعة, و فيها يقول أبو الطيب المتنبي التي مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا...............و عادة سيف الدولة الطعن في العدا
و قال الشيخ ناصيف اليازجي في ذكر بناء(الحدث) لبنائها, و كان أهلها قد سلموها إلى الدمستق بالأمان سنة سبع و ثلاثين و ثلاثمائة هـ , فنزلها سيف الدولة يوم الأربعاء ثامن عشر جمادي الأخرى سنة ثلاث
و أربعين و ثلاثمائة هـ ,و بدأ من يومه فوضع الأساس و حفر أوله بيده, فلما كان يوم الجمعة نازله ابن الفقاس الدمستق في نحو خمسين ألف فارس و راجل, و وقع القتال يوم الاثنين سلخ جمادي الأخرى من أول النهار إلى
العصر, فحمل عليه سيف الدولة بنفسه في نحو خمسمائة من غلمانه فظفر به و قتل ثلاثة آلاف من رجاله و أسر خلقاً كثيراً فقتل بعضهم و أقام حتى بنى الحدث و وضع بيده آخر شرفة منها, في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة
خلت من رجب, فأكثر الشعراء في هذه الوقعة).
و فيها يقول أبو الطيب قصيدته التي مطلعها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم............... و تأتي على قدر الكرام المكارم
و غزوات سيف الدولة توسيعاً لرقعة ملك العرب في أرض الروم و مواقفه المجيدة ذوداً عن حياض الوطن و ببضة الدين لرد غاراتهم المتكررة الأكثر من أن تستوعبها هذه الصفحات, و قصارى القول أن من الفضول
الإسهاب في تقديم شخصية سيف الدولة إلى القراء و هي التي عرف التاريخ فيها معاني الإجلال و التقدير فسجلها على صفحاته الخالدة الغر بكل فخر و اعتزاز.
***********************
حال العلويين في ذلك العهد و ذكر العهد بعض أمرائهم
في غضون ذلك العهد الميمون أمن الساحل السوري من غوائل الغزاة الإفرنج رغم توالي غزواتهم عليه, و التي كانوا في أيها ينكصون على أعقابهم مذمومين مدحورين بفضل
ما كان من روابط قومية و اجتماعية و أواصر ود و قربى و توثق عرى صداقة و ولاء بين هذا المليك الغازي و بين ولاة ثغور الساحل الأشداء, و بتماسكهم للذود عن
حوضه تماسكهم بالولاء لآل البيت الطاهرين عليهم السلام, و بإجماعهم على حمايته إجماعهم في الأذان على (حي على خير العمل).
فقد كان على إنطاكية الأمير أبو العشائر الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان, و على اللاذقية الأمراء التنوخيون, و في طليعتهم الأمراء, محمد و حسين ابنا إسحاق
التنوخي, و علي و معاذ ابنا ابراهيم التنوخي, و على الجنوب من طرابلس إلى طبرية الأمير أبو الحسن رائق بن خضر الغساني, ثم ابنه الأمير محمد بن رائق المعروف
بأمير الأمراء, و كان عامله على صور و صيدا و مرج عيون الأمير بدر بن عمار بن اسماعيل, و جلهم مدحه المتنبي و قد مر بنا ذكرهم في الفصل الثاني من هذا الكتاب.
و رغم ما حاق بالعلويين في تلك الآونة من نقص في النفوس و في الأموال و الأملاك بسبب صد غارات الروم و غزوات الإفرنج المتتالية من جهة, و العمل لإخماد
الاضطرابات الداخلية كفتن الأكراد و البدو و الخوارج الشراة من جهة ثانية, مما سبب ضعفاً و قلة في العلويين و عددهم, فإن العلوي يعتبر ذلك العهد من أخصب و أمرع
عهود تاريخ حياته, لأن حكمه نفسه بنفسه و استعلاء كلمة دينه و مذهبه على يده كانا ينسيانه آلام القتل و التخريب و مشاق الأسر و الأسفار, و يجددان فيه العزم
و النشاط, فيقبل على الجهاد و التضحية بقوة لا تعرف الخور, و عزائم لا يتسرب إليها الانحلال.
*************************
وفاة الملك سيف الدولة
و في سنة ثلاثمائة و ست و خمسين(هـ) توفي الملك سيف الدولة في حلب و كان سبب موته الفالج, و قيل: عسر البول, و حمل تابوته إلى ( ميافارقين) فدفن فيها, و عمره ثلاث و خمسون سنة.
*************************
قيام الملك سعد الدولة و مقتل أبي فراس
بعد وفاة الملك سيف الدولة قبض على زمام الحكم في المملكة و استولى على مرافق الحياة العامة في الدولة و تولى إدارة الملك و تصريف أمور البلاد بعده
ابنه الملك(سعد الدولة) أبو المعالي شريف, ولكنه لم يتمكن من ضبط أحوال الأمة و لا أحسن التصرف في شؤون الرعية, فلم يستقم له الأمر كأبيه
إذ لم تكن له إرادة أبيه و حكمته, و بدلاً من أن يتفرغ لتوسيع رقعة ملكه و يدفع خطر غارات الروم عن بلاده, وقف نفسه لكبح جماح الأمراء الطامعين بما في أيديهم من إمارات
و لتهدئة الأحوال الداخلية التي أثارها عليه أولئك الأمراء و ساعدهم ضعفه و تهاونه في أمر الرعية, و لا أدل على خرق
سياسته و سوء تدبيره من العمل لقتل خاله و ابن عم أبيه الأمير أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان, الذي قامت على قوائم سيفه عَمدُ مملكة الملك سيف الدولة
و قد اختلف المؤرخون في كيفية قتله, فابن الأثير يقول في حوادث
(357هـ) في هذه السنة في ربيع الآخر قتل أبو فراس بن أبي العلاء سعيد بن حمدان, و سبب ذلك أنه كان مقيماً بحمص فجرى بينه و بين أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان وحشة
فطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فراس إلى (صدد) و هي قرية في طرف البرية عند حمص, فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب و غيرهم, و سيرهم في طلبه مع(قرعويه)
فأدركه بصدد فكبسوه, فاستأمن أصحابه و اختلط هو بمن استأمن منهم, فقال قرعويه لغلام له اقتله, فقتله و أخذ رأسه و تركت جثته في البرية حيث دفنها بعض الأعراب
و لقد صدق من قال(إن الملك عقيم) انتهى.
و قال ابن خالويه في شرح ديوان أبي فراس, لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص فاتصل خبره بأبي المعالي و غلام أبيه قرعويه
فانفذ إليه منت قاتله, إلى أن قال: و بلغني أن أبا فراس رضي الله عنه أصبح يوم مقتله كئيباً و كان قلقاً في تلك الليلة و رأته ابنته امرأَه أبي العشائر و هو على تلك الحال
فأحزنها حزناً شديداً ثم ركب على الحال فأنشأ يقول و رجله في الركاب و الخادم
يضبط عليها السير, و إنما قال ذلك كالذي ينعي نفسه و إن لم يكن من قصده ذلك قال رحمه الله:
أبنيتي لا تحزنــي..................كل الأنــــــام إلى ذهـــــاب
أبنيتي صبراً جميـ ............. ـــلا للجليل من المصــــاب
نوحي علي بحسرة................من خلف سترك و الحجاب
قولي إذا ناديتنــــي................وعييت عن رد الجـــــواب
زين الشباب أبو فرا ................ س لـــم يمتــــع بالشبـــاب
ثم سار فلقي قرعويه فكان من أمره ما كان, و هذا آخر ما قاله من الشعر فيما بلغني , انتهى.
و قال ابن خلكان: ذكر ثابت بن قرة الصابي في تاريخه قال: جرت حرب بين ( أبي فراس ) و كان مقيماً بحمص, و بين ( أبي المعالي شريف بن سيف الدولة)
و استظهر عليه أبو العالي و قتله في الحرب و أخذ رأسه و بقيت جثته مطروحة في البرية إلى أن جاء بعض الإعراب و كفنه و دفنه
و قال غيره: لما قتله قرعويه لم يعلم به أبو المعالي, فلما بلغه الخبر شق عليه,انتهى.
و قال السيد (محسن الأمين) في كتابه: ( أبو فراس الحمداني) و الصواب أن الذي قتله (قرعويه) و أن أبا المعالي لم يعلم بقتله إلا بعد وقوعه إلى أن قال:
و من المؤسف أن يكون أبو فراس الأمير الشجاع
الكبير النفس العالي الهمة العربي الصميم, يقتل بيد غلام مملوك لغلام مملوك, و ما أحسن و أصدق قول المتنبي كما في اليتيمة:
فلا تنلك الليالي أن أيديها................ إذا ضربن كسرن النبع بالغرب
و لا يعن عدواً أنت قاهره ................ فإنهن يصدن الصقر بالخـــرب
*************************
ضعف الدولة الحمدانية و جلاء سعد الدولة عن حلب
بعد مقتل أبي فراس أخذ يدب الضعف و الوهن في جسم الدولة الحمدانية, و تقوى روح الشقاق و التمرد في الرعية, إلى أن بلغ من جراء ذلك أن ثار(قرعويه) الغلام المذكور آنفاً على الملك
سعد الدولة نفسه, سنة (359هـ) و استحوذ على حلب و أخرجه منها خائفاً يترقب, فسار إلى (طرف) و هي تحت حكمه فأبى أهلها أن يمكنوه من الدخول إليهم, فذهب إلى أمه في
(ميافارقين) و أمه بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس, فمكث عندها حيناً, ثم سار إلى (حماه) فملكها و سعى في عمارة (حمص) التي كان خربها ملك الروم سنة(359هـ) فيما خرب
من البلدان الساحلية, كما في تاريخ أبي الفداء و ذلك أن ملك الروم دخل إلى طرابلس فأحرق و سبى و قتل منها خلقاً كثيراً, و كان صاحب طرابلس قد أخرجه منها أهلها لظلمه
فأسره الروم و استحوذوا على جميع أمواله و حواصله و كانت كثيرة جداً ثم مالوا على السواحل فملكوا ثمانية عشر بلداً سوى القرى, و تنصّر خلق كثير على أيديهم
و جاؤوا إلى (حمص) فأحرقوا و نهبوا و سبوا, و مكث ملك الروم شهرين يأخذ من البلاد ما أراد, و يأسر من قدر عليه و صارت له مهابة في قلوب الناس
ثم عاد إلى بلده و معه من السبي نحو من مائة ألف ما بين صبي و صبية, و بعث سرية إلى الجزيرة فنهبوا و سبوا, و عاد الروم إلى إنطاكية فملكوها و قتلوا خلقا كثيراً من أهلها
و ركبوا إلى حلب, و أبو المعالي محاصر قرعويه الذي انتزعه ملكه كما تقدم, فخافهم و هرب عنها, فحاصرها الروم و أخذوا البلد و امتنعت عليهم القلعة, ثم اصطلحوا مع (قرعويه) على هدية و مال يحمله إليهم كل سنة
و سلموا إليه البلد و رجعوا عنه, و في عودة أبي المعالي عن حلب هرباً من ملك الروم رجع إلى عمارة
( حمص) و بعد أن أتم ترميمها سكنها إلى أن كانت سنة (366هـ), اختلفت الأمور على قرعويه فكتب أهل حلب إلى أبي المعالي و هو في حمص أن يأتيهم, فسار إليهم و حاصر (قرعويه)
في حلب أربعة أشهر ثم افتتحها.
يتبــــــــــــــــــــــــــــــع.......................