الفصل التاسع
روبنسون كروزو يكسب رفيقاً
ذات صباح رأيت خمسة قوارب كانو في جانبي من الجزيرة . عرفت أن خمسة أو ستة رجال أتوا في كل قارب . لم أرد أن أتعامل مع ثلاثين رجلاً تقريباً , وهكذا عدت إلى بيتي واستعددت أن أدافع عن نفسي في حالة وقوع هجوم . حين لم يحدث أي شيء أخذت بندقيتي ومرقابي وتسلقت التل لأرى ما يمكنني اكتشافه عن المجموعة .
رأيت أن هناك أقل من ثلاثين من المتوحشين وأنهم سبق وأشعلوا ناراً . كان لديهم سجينان في أحد قوارب الكانو . فكرت فقط بأنهما سيؤكلان بعد وهلة وجيزة . حتى بينما كنتُ أراقب , جُرَّ أحد السجناء من قارب الكانو وضُرب حتى فقد الوعي . على الفور بدأ اثنان من المتوحشين في قطع جسده بالسكاكين ويرمي قطع اللحم في وعاء فخار على النار .
في أثناء هذا تُرك السجين الآخر لوحده إلى أن يستعد المتوحشين لقتله أيضاً . رأى أن لديه فرصة للهرب وبدأ , بعد أن قفز خارجاً من قارب الكانو , يجري بسرعة الرمال باتجاهي . كنت خائفاً جداً في البداية في حالة إذا ما طورِدَ من قبل المتوحشين كلهم . لكن , حين نظرت ثانية , رأيت أن ثلاثة متوحسين فقط يلحقونه . قبل أن يستطيع الوصول إلى بيتي كان يجب عليه أن يعبر الخليج . فعل هذا بسهولة كبيرة فقد كان سباحاً جيداً . ما إن عبر النهر استمر في الجري في اتجاه بيتي . استطاع اثنان فقط أن يسبحا واستدار الثالث ومشى ببطء عائداً على طول الشاطئ . سبح الآخران عبر النهر بأبطأ من السجين الهارب حتى أنه ابتعد عنهما طيلةالوقت.
فيما كنت أراقب من التل خطرت ببالي فجأة فكرة . هذه هي فرصتي لا في إنقاذ الرجل المسكين فقط بل أن أكسب خادماً ورفيقاً أيضاً . نزلت إلى أسفل التل ووصلت إلى مكان بين السجين وملاحقيه الاثنين .
حين وصل إلي المتوحش الأول أسرعت إليه وطرحته أرضاً بنهاية بندقيتي . لم أرد أن أطلق النار منها , لو أمكنني هذا , حتى لا يسمع المتوحشون الآخرون الطلقة ويهاجمونني . مع هذا عندما أتى المتوحش الثاني كان لديه قوس وسهم . سحب قوسه ليطلقه علي , وهكذا لم يكن لدي أي اختيار سوى إطلاق النار عليه . أطلقت النار وقتلته على الفور .
خاف السجين المسكين من تجربته خوفاً شديداً إلى حد أنه وقف ساكناً . مع أنه رأى كلا عدويه يستقران على الأرض لم يتقدم ولم يرجع إلى الخلف . أشرت إليه ليقترب ففهم بسهولة . خطا بضع خطوات إلى الأمام ثم توقف ثانية . وقف مرتجفاً كأنه توقع أن أطلق النار عليه أيضاً . أشرت إليه كل إشارة تشجيع أمكنني التفكير فيها وابتسمت له . أخيراً تقدم مباشرة إلى وركع عند قدمي . قبّل الأرض أمامي وأخذ قدمي ووضعها على رأسه . أخذت هذه بأنها طريقته للقسم على أن يكون خادمي إلى الأبد .
حين رفعته على قدميه بدأ يتكلم إلي . لم أفهم كلمة مما كان يقوله , لكنه كان من السار جداً سماعه . كان الصوت البشري الأول الذي سمعته منذ خمسة وعشرين سنة .
بدأ المتوحش الأول الذي طرحته يستعيد قواه ويجلس معتدلاً . حين رأيت هذا سددت بندقيتي عليه كأنني سأطلق النار . أشار خادمي , كما سأدعوه الآن , إشارة لي . أراد السيف الذي تدلى من حزامي . حين أعطيته له جرى نحو عدوه وقطع رأسه وفصله عن جسمه . ثم وبابتسامة نصر جرى نحوي ووضع السيف ورأسه عند قدمي . لم يفهم كيف قتلت المتوحش الآخر من هذه المسافة . أشار إليه وأشار إشارات إلي بأن أسمح له بأن يذهب إليه . حين أتى إلى المتوحش بدا مرتبكاً جداً . أدار الجثة أولاً على جانب ثم على جانب آخر ونظر إلى الجرح الذي أصابته به البندقية . ثم جمع القوس والسهم وأعادهما إلي .
استدرت لأبتعد وأشرت إليه إشارات بأن يتبعني . لم أرد أن أكون قريباً حين يأتي المتوحشون الآخرون بحثاً عن الرجلين الميتين . أشار خادمي لي بأننا يجب أن ندفن الجثتين قبل أن نغادر . بدأ العمل بسرعة وحفر حفرة في الأرض بيديه وجر الجثة الأولى أولاً . غطاها نهائياً ثم بدأ في حفر حفرة ثانية . عمل بسرعة كبيرة حتى أنه أكمل عمله خلال ربع ساعة . ثم أخذته إلى الكهف الذي وجدته في النهاية الأقصى من الجزيرة .
هنا أعطيته بعض الخبز والزبيب وبعض الماء ليشربه . وجدت أنه كان جائعاً وعطشاً جداً . حين أنهى طعامه أشرت إلى بعض القش الذي له بطانية مفرودة على قمته . تمدد وسرعان ما نام . أظن أنه كان منهكاً تماماً من تجاربه .
فيما هو يتمدد نائماً أصبحت قادراً على أن أنظر إليه بإمعان أكثر . كان جيد البنيان والمظهر مع رجلين مستقيمتين وقويتين . افترضت أنه كان في حوالي السادسة والعشرين . كان شعره أسود وطويلاً , ليس مجعداً كصوف . كان وجهه مستديراً , وكان أنفه صغير لكنه سمين , وكان له فم جيد جداً بشفتين رفيعتين . كانت أسناه الرائعة جيدة الوضع وبِيض كعاج .
حين استيقظ بدأت أتكلم إليه وعلمته كيف يتكلم إلي . أولاً علمته أن يقول اسمه . دعوته جمعة باسم اليوم الذي أنقذته فيه . وعلمته أن يقول : " سيدي . " وتركته يعرف بأن ذلك سيكون اسمي . بقينا في الكهف طيلة الليل , لكن حالما حل النهار انطلقنا إلى بيتي . في طريق العودة مررنا بالمكان حيث كنا قد دفنا المتوحشين الاثنين . عمل جمعة كأنه يحفر مخرجاً الجثتين . بإشاراته بدا لي أنه يريد أن يأكلهما . غضبت غضباً شديداً وأخبرته أن يتقدم ويبتعد عنهما .
قبل الذهاب إلى البيت صعدنا إلى التل لنتأكد تماماً من أن المتوحشين كانو قد رحلوا . سحبت مرقابي وبحثت في الشاطئ مدققاً . لم تكن هناك أي إشارة لأي من المتوحشين أو قواربهم الكانو . لابد أنهك كانو قد ذهبوا دون أن يزعجوا أنفسهم بالبحث عن رفيقيم الاثنين .
هبطنا إلى الشاطئ وأتينا إلى المكان حيث كان المتوحشون . فيما أنا أبحث , غطس قلبي وارتجفت بما رأيت . كان الرمل أحمر من الدم وكانت العظام في كل مكان . وأخبرني جمعة بالإشارات بأنه كانت هناك معركة كبيرة بين قبيلته وقبيلة المتوحشين . كان هو أحد السجناء الذين أُخذوا خلال المعركة . أخذ المتوحشون سجناءهم إلى أماكن مختلفة ليُقتلوا ويؤكلوا .
عند العودة إلى البيت فصلت بعض الملابس لجمعة . عملت له بنطالاً ومعطفاً من جلد الماعز . وخطت له طاقية من جلد أرنب بري . سُرَّ سروراً عظيماً بهذه الملابس وسرعان ما تعلم كيف يرتديها ويتجول في الأنحاء وهو يرتديها .
في البداية نام في ملجأ أعددته له خارج السور الداخلي . أخذت السلم وكل البنادق إلى الداخل . لم يكن جمعة يستطيع الوصول إلي سوى بالتسلق فوق السور . كان هذا سيثير ما يكفي من الضجة لتوقظني . لكنني ما كان علي أن أقلق . ما كنت أردت خادماً أكثر حباً وإخلاصاً منه . كان سريعاً جداً في تعلم كيف يفهمني وأيضاً كيف يتكلم إلي . كان من السار جداً أن أجد شخصاً أتكلم إليه . بالمساعدة التي قدمها إلي جمعة أصبحت حياتي أسهل وأظن أنني كان يمكنني أن أقيم في الجزيرة إلى الأبد , لولا وجود المتوحشين .
أعتقد أن جمعة كان سيعبدني ويعبد البندقية لو سمحت له بهذا . فلبعض الوقت لم يكن ليلمس البندقية بل يتكلم إليها كأنها تجيبه . عرفت فيما بعد أنه كان يطلب من البندقية ألا تقتله
الفصل العاشر
قارب كانو آخر يُبنى
بدأت أبهج سني إقامتي في الجزيرة الآن . علمت جمعة أن يسخن الذرة ويخبز الخبز . خلال وقت قصير أصبح قادراً على القيام بالعمل كله تماماً كما استطعت أنا أن أقوم به . بدأ يتكلم جيداً تقريباً ليفهم أسماء كل شيء أردته . كان سروراً عظيماً لي أن أصبح قادراً على الكلام إلى شخص ثانية بعد كل هذه السنين .
سألته عن مدى بعد البر الرئيسي عن الجزيرة وعما إذا كانت قوارب الكانو دائماً ما تضيع غالباً في البحر . بدا أن لديه فكرة ضئيلة جداً عن المسافات , لكنه أخبرني أن هناك خطراً ضعيفاً جداً وأن قوارب الكانو نادراً جداً ما تضيع . قال إن هناك , وعلى مسافة قريبة داخل البحر , تياراً وريحاً . في الصباح يتجه التيار في طريق واحد وفي فترة ما بعد الظهر يتجه في طريق آخر . من هذا فهمت أنه كان يتكلم عن حركات المد والجزر .
أخبرني جمعة عن شعبه الذين دعاهم بالكاريبيين . قال أيضاً بأنه على مسافة طويلة وراء الشمس الغاربة , عاش رجال مثلي ببشرة بيضاء ولحى .
قال جمعة : " إنهم يقتلون كثيراً من رجل . "
افترضت أنه كان يتكلم عن الإسبان . فقد كانت قسوتهم في جنوب أميركا معروفة حتى في أوروبا .
سألته : " هل ترى أن من الممكن الوضول إلى بلادهم ؟ "
أجاب : " نعم , نعم , يمكنك الذهاب إليها في قاربيّ كانو اثنين . "
بذلك عنى أن الإنسان يحتاج إلى قارب أكبر بحجم قاربيّ كانو اثنين .
بدوري أخبرت جمعة عن شيء من قصتي . وصفت له حياتنا في إنجلترا وكيف أنني تركت وطني وأتيت إلى البحر . وصفت كيف تحطمت السفينة التي كنت أبحر بها . حين سمع هذا جمعة استغرق في التفكير . قال بعد بعض الوقت : " أنا أرى قارباً هكذا يأتي إلى قومي . "
في البداية لم أفهم ما كان يحاول أن يخبرني به . ثم أدركت بأنه كان يقول بأن سفينة مثل سفينتنا كانت قد حطمتها عاصفة على شواطئ بلاده هو . وصفها لي ببعض التفصيل ثم أضاف شيئاً أثار اهتمامي إلى حد عظيم .
قال : " نحن ننقذ رجلاً أبيض من الغرق . "
سألت : " كم رجلاً أبيض كان هناك .؟ "
عد على أصابعه ليريني أن هناك سبعة عشر رجلاً في المجموع . تابع جمعة القول بأن الرجال البيض كانوا لا يزالون هناك وظلوا يعيشون من شعبة لمدة أربعة سنوات . سألته لماذا لم يقتل شعبه الرجال البيض ويأكلونهم .
أجابني : " عملوا أخاً معهم . شعبي لا يأكلون أي رجل إلا حين يشنون حرباً . "
ذات يوم حين كان الطقس صافياً جداً كنت أنا وجمعة على قمة تل في الجانب الشرقي من الجزيرة . نظر جمعة عبر البحر واُثير جداً . دعاني إلى جانبه وأشار بأصبعه .
قال : " يا للفرح , يا للفرح . هناك , انظر إلى بلادي . هناك قومي . "
سألته ما إذا كان يحب أن يعود إلى شعبه مرة أخرى .
أجاب : " نعم , سأكون مسروراً كثيراً لأن أكون عند قومي أنفسهم . "
سألت : " ما الذي ستفعله هناك ؟ هل ستتحول إلى متوحش مرة أخرى , تأكل لحم البشر وتصبح متوحشاً كما كنت من قبل ؟ "
" لا , لا , جمعة يخبرهم أن يعيشوا جيداً . جمعة يخبرهم أن يأكلوا خبزاً ولحم ماعز وأن يشربوا حليباً . لا يأكلون لحم رجلون ثانية . "
قلت : " لماذا ؟ إذن من المؤكد أنهم سيقتلونك . "
أجاب جمعة : " لا , هم لا يقتلوني . إنهم يرغبون في التعلم . "
حين سألته ما إذا كان سيعود إلى شعبه , قال جمعة بأنه ليس لديه أية قارب كانو وأنه لا يمكنه أن يسبح بعيداً جداً إلى هذا الحد . وعدت أن أصنع قارب كانو له , لكن جمعة لم يرد أن يذهب وحيداً .
استغربت : " لماذا ؟ سيأكلوني لو ذهبت معك . "
أجاب جمعة : " لا , لا , إنهم لا يأكلونك . إنهم لطفاء معك كما هم لطفاء مع الرجال البيض الآخرين . "
كان واضحاً أن جمعة أراد مني أن أغادر الجزيرة لأذهب معه لأنضم إلى قومه . بالرغم من هذا , فكرت أنه من الأفضل أن أبقى في الجزيرة وأن يذهب جمعة بدوني . حين أخبرته بهذا حزن حزناً شديداً جداً وابتعد عني . سرعان ما عاد بعد وقت قصير ومعه فأس .
قال : " هاك , خذ . أنت تقتل جمعة . لماذا تُبعد جمعة عنك ؟ أفضل أن تقتله . "
حالما قال هذه الكلمات رأيت في عينيه دموعاً . أخبرته حينئذ , وفي مرات عديدة فيما بعد , بأنني ما كنت سأبعده في الوقت الذي يريد هو أن يبقى . وجدت أنه يريد أن يعود للوطن وأنني يجب أن أذهب معه وأساعد قومه .
قال : " أنت التعلم الرجل المتوحش ليكون أليفاً , تخبرهم أن يعرفوا الله , أن يصلوا إلى الله . أنت تعلمني خيراً , أنت تعلمهم خيراً . "
مع أن جمعة لم يرد أن يتركني , قررت أن أبني قارب كانو آخر , وانطلقت في الأرجاء باحثاً عن شجرة مناسبة لصنع القارب . خططت أن أبني قارباً أكبر من قاربي الأول ووجدت بعض الصعوبة في الحصول على شجرة كبيرة تماماً , كانت أيضاً قرب الماء . أخيراً وجد جمعة شجرة , وبعد أن أسقطها , بدأنا في تجويفها . أراد جمعة أن يحرق داخلها , لكنني أريته كيف أفعل هذا بالأدوات التي كانت لدي . سرعان ما تعلم كيف يستعملها . في حوالي مدة شهر من الزمن أنهينا تشكيل قارب الكانو وأصبح جاهزاً لينطلق . استغرقنا أسبوعان آخران لجر القارب بوصة بوصة إلى الشاطئ إلى أن طفا في البحر .
حين حلّ القارب في الماء رأيت أنه سيحمل عشرين رجلاً بسهولة . مع أن القارب كان كبيراً جداً استطاع جمعة أن يوجهه بسهولة تامة بمقذافه . مع هذا , خططت أن أضع سارية وشراعاً , ومرساة أيضاً .
استغرقت هذه الأمور الإضافية حوالي شهرين لصنعها وتركيبها . إضافة إلى الشراع الرئيسي أضفت شراعاً أمامياً صغيراً , حتى أن قارب الكانو كان سيدور بسرعة أكبر في الريح . وصنعت أيضاً ذراع دفة , حتى يكون من السهل توجيهه . حين اكتمل هذا العمل كان علي أن أعلم جمعة كيف أبحر بالقارب . مع أنه كان خبيراً بالمجذاف , لم يكن يعرف أي شيء عن الإبحار بالشراع .
خلال موسم المطر أبقيت قاربنا الكانو تحت السقيفة . أثناء وجود مد عالٍ سحبناه إلى أعلى لشاطئ . حفر جمعة حوضاً صغيراً كان كبيراً فقط ليستوعب القارب وعميقاً تماماً بالنسبة إليه ليطفو فيه . حين انحسر المد عن الشاطئ بيننا سداً عبر المدخل لتبقي الماء خارجه .؟ ثم غطيناه بفروع من الأشجار وهناك استقر إلى أن توقفت الأمطار
الفصل الحادي عشر
زوار أكثر إلى الجزيرة
ذات صباح طلبت من جمعة أن يذهب إلى شاطئ البحر ليرى إذا ما كان يمكنه أن يجد سلحفاة . لم يكن قد ذهب إلى مسافة بعيدة حين عاد جارياً .
صاح بصوت عال : " أوه سيدي , أشياء سيئة يا سيدي ! "
سألته : " أي أشياء سيئة يا جمعة ؟ "
أشار نحو الشاطئ .
قال بصوت خائف جداً : " كاون واحد واثنان وثلاثة . "
حاولت أن أطمئنه لكن لم يكن هناك فائدة . لم يكن هناك أي شيء يمكنني قوله له يقنعه بأن المتوحشين لم يعودوا للبحث عنه فقط . كان متأكداً من أنهم سيقطعونه إلى قطع ويأكلونه .
أخبرته : " إذا هاجمونا سنقاتلهم . "
أجاب : " أنا قاتل أيضاً . لكن هناك يأتي الكثير جداً بالنسبة إلينا . "
أجبت : " ذلك لا يهم يا جمعة . ستخيف بنادقنا أولئك الذين لن نقتلهم . "
ذهبت إلى البرميل أولاً حيث لا يزال لدي بعض شراب الروم . شربت بعضاً منه أنا نفسي ومن ثم أعطيت بعضه لجمعة لأثبت أعصابه . أعددت بنادقي وساعدني جمعة . حين شحنت كل البنادق والمسدسات علقت سيفي إلى جانبي وأعطيت جمعة فأساً . ثم , وبعد أن أخذت مرقابي , تسلقت أنا وجمعة التل لأرى كم من المتوحشين أتى هذه المرة .
رأيت أن هناك واحداً وعشرين متوحشاً في المجموع وكان لديهم ثلاثة سجناء . رسوا هذه المرة في مكان أقرب كثيراً إلى بيتي . كان الشاطئ هنا منخفضاً , ووصلت غابة كثيفة إلى حافة الرمل . لم أشك بأن المتوحشين نووا أن يقتلوا ويأكلوا سجناءهم , وقد أغضبني التفكير في هذا غضباً شديداً حتى أنني قررت أن أهاجمهم بمساعدة جمعة . بانتقالي حوالي ميل داخل اليابسة تمكنت من شق طريقي في الغابة خلفهم . لحسن الحظ , وصلت إلى مسافة ضمن نطاق إطلاق النار على المتوحشين دون أن أُكتشف .
دخلت الغابة بأسرع ما أمكنني وجمعة يتبعني عن قرب خلفي . حين كنت على حافة الغابة على مسافة أقرب من المتوحشين ناديت بصوت رقيق على جمعة . أريته شجرة كبيرة وطلبت منه أن يتسلقها ويى ما إذا كان يمكنه أن يرى أي شيء .
حين عاد أخبرني أن المتوحسين كانوا يجلسون حول النار يأكلون أحد سجنائهم . كان سجين آخر يجلس بالقرب منهم وهو مربوط بحبل . أخبرني جمعة بأنه رجل أبيض بلحية . ملأني هذا بالرعب وذهبت أنا بنفسي إلى الشجرة ونظرت من خلا مرقابي . بوضوح فقط رأيت رجلاً أبيض يتمدد على الرمل ويداه وقدماه مربوطتان .
أردت أن أجري نحو المتوحشين مباشرة لكنني أدركت أن هذا سيكون بلاهة . كانت توضع بعض الشجيرات بيني وبين النار حيث كانوا يجلسون . لو أنني كنت أستطيع الوصول إليهم دون أن أُرى لكنت قادراً على مفاجأتهم . بعد أن خطوت بحذر كبير عدت راجعاً حوالي عشرين قدماً وسلكت طريقي بهدوء غبر الغابة , إلى أن أتيت إلى الشجيرات .
لم تكن هناك أية لحظة أضيعها . كان تسعة عشر شخصاً من المتوحشين يجلسون حول النار . كان الآخران أُرسلا لقتل السجين الآخر . أشرت إلى جمعة لكي ينضم إلي وسرعان ما كان بجانبي .
قلت : " الآن يا جمعة , افعل تماماً كما أطلب منك . ضع بندقياتك على الأرض واستخدم الخردق . حسناً , الآن أنت جاهز لإطلاق النار . "
أومأ جمعة برأسه بسرعة .
أمرت : : إذن اطلق ! "
انطلقت بندقيتانا معاً . كان تصويب جمعة أفضل من تصويبي . بطلقاته الأولى قتل اثنين من المتوحشين وجرح ثلاثة آخرين . بطلقاتي قتلت واحداً فقط وأصبت اثنين .
لابد أن تتأكدوا أن فزعاً تاماً حل بين المتوحشين . قفز كل الذين أُصيبوا واقفين على أقدامهم . لم يعرفوا من أين تأتي الطلقات ولا إلى أي طريق يجرون لتحقيق سلامتهم . وضعت بندقيتي في الخردق جانباً وتناولت بندقية أخرى في من الرمل . فعل جمعة الشيء نفسه واستعد ليطلق النار مرة أخرى .
سألت : " هل أنت مستعد يا جمعة ؟ "
" نعم . "
" إذن اطلق النار . "
أطلقنا النار مرة أخرى لكننا قتلنا اثنين فقط هذه المرة . جُرح الكثيرون وجُرُّوا في الأنحاء صاخين وصائحين كأنهك كانوا مجانين . التقطت بنادق الخردق الأخرى وناولت بندقية لجمعة .
قلت : " الآن اتبعني . "
بهذا القول اندفعت خارجاً من الغابة وجمعة خلفي . حالما رآني المتوحشون صرخت بأعلى صوت أمكنني إطلاقه . اتجهت مباشرة نحو السجين الذي كان وحيداً الآن . كان المتوحشان اللذان على وشك أن يقتلاه قد هربا وقفزا داخلين قارب كانو . تبعهما ثلاثة من المتوحشين الآخرين . طلبت م جمعة أن يطلق النار عليهم . جرى على الشاطئ ليكون أقرب إليهم وأطلق النار عليهم . ظننت في بداية الأمر أنه كان قد قتلهم أو جرحهم كلهم , فقد سقطوا كلهم في كومة داخل القارب . نهض اثنان منهم بسرعة ورأيت أنه قُتل اثنين وجرح واحداً .
بينما كان جمعة يطلق النار على المتوحشين , سحبت بندقياتي وقطعت الحبال التي ربطت السجين المسكين . رفعته على قدميه لكنه كان ضعيفاً جداً حتى أنه لم يكد يستطع أن يتوقف أو يتكلم . أخذت قنينة شراب الروم من جيبي وطلبت منه أن يشرب . أعطيته أيضاً قطعة من الخبز أكلها . سألته من أي بلد أتي فأخبرني أنه إسباني .
عندئذ استعاد قوته قليلاً وعرفني كم كان ممتناً لي لإنقاذه حياته .
قال بما أمكنني تذكره من اللغة الإسبانية : " سيدي , سنتكلم فيما بعد , لكن علينا أن نقاتل الآن . لو كنت تتمتع بأي قوة باقية خذ المسدس والسيف . "
أخذ المسدس ووضعه في حزامه . ثم أخذ السيف وجرى إلى المتوحشين . قطع اثنين منهم إلى قطع . في أثناء ذلك , أرسلت جمعة إلى الشجيرات حيث كنا قد أطلقنا طلقاتنا الأولى . طلبت منه أن يحضر لي كل بندقياتي التي أبقيناها هناك . لم أكن قد أطلقت كل بندقياتي بعد فأنا لم أرغب في أن يمسك بي وأنا بلا وسيلة دفاع . حالما عاد جمعة أعطيته بندقيتي ليحميني بها بينما رحتُ أعيد شحن كل البنادق الأخرى .
بينما كنت أقوم بهذا هاجم أحد المتوحشون الإسباني من الخلف . كان الإسباني زميلاً شجاعاً لكنه كان ضعيفاً بسبب بقائه سجيناً طيلة هذه المدة الطويلة من الزمن . قاتل جيداً وجرح المتوحش مرتين في الرأس , لكن المتوحش كان أقوى منه وأخيراً رمى بالإسباني على الأرض . ثم أمسك المتوحش بسيف الإسباني ولواه في يده وأخذه منه . كنت أجري لمساعدته , حين وصل الإسباني إلى المسدس في حزامه وأطلق النار على المتوحش في جسده . سقط ميتاً على الفور .
جرى جمعة وراء المتوحشين الثلاثة الذين كنا قد جرحناهم وقتلهم بفأسه . أخذ الإسباني بندقية من النادق التي أعدت شحنها وجرح اثنين آخرين من المتوحشين . حين هربا لم يستطع أن يرجي بسرعة كافية ليتبعهما وهربا إلى داخل الغابة . جرى جمعة وراءهما بسرعة وسرعان ما قتل واحداً منهما بينما جرى الآخر بسرعة إلى الشاطئ وسبح خارجاً إلى قارب الكانو . كان متوحشان آخران قد ركبا قارب الكانو مع شخص آخر كان جريحاً . هرب هؤلاء الأربعة وكانو المتوحشون الوحيدون الذين هربوا من بين المجموعة كلها .
أطلق جمعة طلقتين وراءهم لكنهم كانوا أبعد جداً من أن يتعرضوا لأي خطر . سألني ما إذا كا يستطيع أخذ قارباً من قوارب الكانو ويتبعهم . وافقت على الفور فلم أردهم أن يعودوا إلى شعبهم بأخبار ما قد حدث . تخيلت أنه في لكح البصر سيغزوا مائتان أو ثلاثمائة من المتوحشين الجزيرة لأخذ ثأرهم .
ركضت مع جمعة إلى أحد قوارب الكانو وكنت على وشك أن أقفز فيه حين لاحظت سجيناً آخر في قاعه . كانت يداه وقدماه مغلولتين وكان ميتاً تقريباً من الخوف . كان قد سمع الطلقات والصرخات ولم يكن يعرف ما حدث . كان مربوطاً بإحكام شديد حتى أنه بالكاد يتحرك .
قطعت الحبال التي أمسكت بيديه وقدميه وحاولت مساعدته على الوقوف . كان أضعف من أن يقف واستلقى في قارب الكانو وكان يئن , أظن أنه اعتقد أننا فككنا رباطه فقط لنقتله . حالما رآه جمعة بدأ يحضن ويقبّل هذا السجين . ثم صاح , وقفز وغنى وقفز من مكان إلى آخر كأنه مجنون . مر وقتاً طويلاً قبل أن أتمكن من حمل جمعة على الكلام إلي ويخبرني لماذا كان مثاراً إلى هذا الحد . حين هدأ قليلاً أخبرني أن الرجل في قاع القارب كان أباه .
بدأ جمعة يفرك رجلي أبيه ليحاول أن يعيد بعض الحياة إليهما . جعلتنا كل هذه الإثارة ننسى ملاحقة المتوحشين . كما حدث , كان من حسن الحظ أننا لم نفعل هذا لأن عاصفة عنيفة هاجت بعد ساعتين . كانت الأمواج عالية جداً لدرجة أنني شككت بأن المتوحشين سيصلون إلى موطنهم في أي وقت وهم أحياء . ظننت أننا لو كنا لاحقناهم لكنا متنا أنا وجمعة غرقاً .
الفصل الثاني عشر
ضيوف كروزو في الجزيرة
حين استعاد أبو جمعة وعيه قليلاً استدعيت دعوت خادمي إليّ . سألت ما إذا كان قد أعطى أباه أي خبز يأكله . أخبرني بأن ليس لديه شيئاً يعطيه له . مددت يدي إلى داخل كيسي وأعطبته خبزاً وزبيباً ليأكله وقليلاً من الروم ليشربه . لم يكد جمعة يعطي أبوه الطعام حتى جرى مبتعداً يأرسع ما يمكنه .
قبل أن أمتشف أين كان يذهب جمعة , أو ما نوى فعله , اختفى عن الأنظار . عاد بعد ساعة ومعه جرة مليئة بالماء العذب وبعض المزيد من الخبز . رشفت رشفة صغيرة من الماء ثن لأخذها جمعة إلى أبيه . كان الرجل العجوز عطشاً جداً وبدا أن الماء يفعل به خيراً من الروم الذي شربه للتو . حين أنهى أبو جمعة الشرب طلبت إلى الخادم أن يأخذ الماء إلى الإسباني , الذي بدا في حاجة ماسة للماء قدر حاجة أبي جمعة .
كان الإسباني يستقر على العشب تحت الشجرة . حين عرض عليه جمعة الماء جلس معتدلاً وشربه بلهفة . أخذت له بعض الخبز وبعض الزبيب الذي أكله بسرعة . حين انتهى أشرت إليه إشارات أن يأتي إلى قارب الكانو , لكنه لم يكن يستطيع بعد القتال أن يقف على قدميه على نحو سليم . رفعه جمعة بين ذراعيه , ووضعه على ظهره وحمله إلى قارب الكانو . هنا خفض الإسباني بلطف إلى أن استقر بجانب والد جمعة . ثم دفع القارب خارجاً في الماء وجذف به في أنحاء الخليج قرب بيتنا . انطلقت لأذهب إلى البيت سيراً على الأقدام . حالما وصل جمعة إلى الخليج , أحضر قارب الكانو إلى الشاطئ ومن ثم جرى ليحضر قارب كانو آخر . كان سريعاً في هذا جداً حتى أنني بالكاد عدت إلى الخليج قبل أن يجذف جمعة بقارب الكانو الثاني إلى الشاطئ .
كان ضيوفنا الجدد غير قادرين على المشي من قارب الكانو إلى بيتنا . صنعت نوعاً من نقالة حملناها أنا وجمعة بيننا . حين وصلنا إلى السور الخارجي واجعتنا مشكلة طيف ندخل الضيوف إلى الداخل . لم نستطع رفع النقالة من فوق السور ولم يستطع الضيوف تسلق السور . حللنا المشكلة بصنع خيمة بشراع قديم ونصبناها خارج السور . كان في داخل الخيمة فراشان من القش مغطيان بأغطية . هنا سيقيم ضيفانا إلى أن نتمكن من إدخالهما إلى داخل الأسوار .
بدأ جمعة في طبخ وجبة , وحالما كانت جاهزة جلست مع ضيوفي لنأكل . كانت جزيرتي الآن مثل مملكة صغيرة . كنت الملك وجلست حول الطاولة حيث كان شعبي . تصرف جمعة كمترجم وأنا أتحدث إلى أبيه . سألت الرجل العجوز ما الذي فكر بأنه حدث مع المتوحشين الذين فروا في قارب الكانو . أجاب بأنه فكر بأنهكك كانوا قد غرقوا في العاصفة . فكر : حتى إذا كانوا قد وصلوا إلى بيوتهم , كانوا خائفين جداً من البنادق إلى درجة أنهم لن يعودوا . بينما الوقت يمضي , ولم يظهر أي قارب كانو , وصلت إلى استنتاج أنه كان على حق .
حين تكلمت إلى الإسباني علمت أن هناك تسعة عشر شخصاً من بلده يعيشون في البر الرئيسي . كانوا قد أُنقذوا من حطام السفينة ويعيشون في سلام جنباً إلى جنب مع المتوحشين .
تابع : " الحياة قاسية جداً في البر الرئيسي , ونحن نفتقر إلى أشياء كثيرة نحتاج إليها . "
سألت : " من أين أتيت حين تحطمت سفينتك ؟ "
أجاب : " جئنا من نهر بلات في الأرجنتين وكنا نتجه إلى هافانا . "
" كيف حدث أنك لم تحاول الهرب أبداً والعودة إلى أسبانيا ؟ "
" غالباً ما تكلمت عن هذا لكن خططنا دائماً كانت تؤدي إلى لا شيء . "
" هل تظن أن رفاقك سيرغبون في أن يأتوا إلى هذه السفينة ومن ثم يهربون معي ؟ "
حين أجاب الإسباني أخبرني بأن حياتهم كانت قاسية جداً حتى أنهم سيرحبون بأي فرصة للهرب . اقترحت أن يعود إلى البر الرئيسي مع جمعة ويبحث الموضوع من زملائه من أبناء بلاده . وإذا رغبوا في أن يأتوا إلى الجزيرة فإنهم يمكنهم أن يعودوا معه في قارب كانوا كبير .
شكرني الإسباني لعرضي , لكنه سأل إذا ما كان لدينا ما يكفي من طعام في الجزيرة لإطعام رفاقه إضافة إلى إطعامنا نحن أنفسنا . كانت هذه مشكلة لم أفكر بها , ورأيت بأننا سنحتاج إلى زراعة المزيد من الحبوب إذا أصبح لدينا الكثير من الناس إلى هذا الحد في الجزيرة . في النهاية , قررنا أن نزرع أرضاً أكثر ونستعمل كل احتياطاتنا من البذور . بحلول وقت الحصاد التالي سيكون لدينا ما يكفي من حبوب ليُطعم الكل .
الآن , وقد كان هناك الكثير جداً منا في الجزيرة إلى هذا الحد في الجزيرة , ان يمكننا أن نتجول في أنحاء الجزيرة بلا خوف من المتوحشين , وانطلقت في الأنحاء مُزيداً عدد قطيعي من الماعز . فعلت هذا بالإمساك بعشرين جدياً صغيراً وتربيتهم . بحثت أيضاً في الجزيرة إلى أن وجدت جزءاً وافراً حيث الأعناب كانت وفيرة . التقطنا أمبر كمية أمكننا حملها معنا , وحين عدنا إلى البيت , علقناها في الشمس لتجف . حين كان حصاد الشعير والرز جاهزاً أصبح لدينا ما يكفي من حبوب ليدوم لدينا حتى الحصاد التالي , حتى لو أتتي المجموعة كلها من البر الرئيسي .
الآن , وقد أصبح لدينا مل يكفي من طعام لكل ضيوفنا , أخبرت الإسباني أن يستعد لرحلته . أخذ هو وأبو جمعة قارباً من الكانو الذي أُحضِرا به إلى الجزيرة كسجينين . فيه وضعوا ما يكفي من طعام لهما وما يكفي من طعام لمواطنيهما لمدة ثمانية أيام . أعطيتهما بندقية لكل واحد منهما وبعض الذخيرة في حالة ما إذا وقعا في متعب .
بعد أن تمنيت لهما رحلةً طيبة راقبتهما وهما ينطلقان . اتفقنا على الإشارة التي سيطلقونها عند عودتهم . كان هذا إلى الحد الذي يجعلني لا أخطئ وأحسب أنهم هم القادمون بدلاً من المتوحشين .
روبنسون كروزو يكسب رفيقاً
ذات صباح رأيت خمسة قوارب كانو في جانبي من الجزيرة . عرفت أن خمسة أو ستة رجال أتوا في كل قارب . لم أرد أن أتعامل مع ثلاثين رجلاً تقريباً , وهكذا عدت إلى بيتي واستعددت أن أدافع عن نفسي في حالة وقوع هجوم . حين لم يحدث أي شيء أخذت بندقيتي ومرقابي وتسلقت التل لأرى ما يمكنني اكتشافه عن المجموعة .
رأيت أن هناك أقل من ثلاثين من المتوحشين وأنهم سبق وأشعلوا ناراً . كان لديهم سجينان في أحد قوارب الكانو . فكرت فقط بأنهما سيؤكلان بعد وهلة وجيزة . حتى بينما كنتُ أراقب , جُرَّ أحد السجناء من قارب الكانو وضُرب حتى فقد الوعي . على الفور بدأ اثنان من المتوحشين في قطع جسده بالسكاكين ويرمي قطع اللحم في وعاء فخار على النار .
في أثناء هذا تُرك السجين الآخر لوحده إلى أن يستعد المتوحشين لقتله أيضاً . رأى أن لديه فرصة للهرب وبدأ , بعد أن قفز خارجاً من قارب الكانو , يجري بسرعة الرمال باتجاهي . كنت خائفاً جداً في البداية في حالة إذا ما طورِدَ من قبل المتوحشين كلهم . لكن , حين نظرت ثانية , رأيت أن ثلاثة متوحسين فقط يلحقونه . قبل أن يستطيع الوصول إلى بيتي كان يجب عليه أن يعبر الخليج . فعل هذا بسهولة كبيرة فقد كان سباحاً جيداً . ما إن عبر النهر استمر في الجري في اتجاه بيتي . استطاع اثنان فقط أن يسبحا واستدار الثالث ومشى ببطء عائداً على طول الشاطئ . سبح الآخران عبر النهر بأبطأ من السجين الهارب حتى أنه ابتعد عنهما طيلةالوقت.
فيما كنت أراقب من التل خطرت ببالي فجأة فكرة . هذه هي فرصتي لا في إنقاذ الرجل المسكين فقط بل أن أكسب خادماً ورفيقاً أيضاً . نزلت إلى أسفل التل ووصلت إلى مكان بين السجين وملاحقيه الاثنين .
حين وصل إلي المتوحش الأول أسرعت إليه وطرحته أرضاً بنهاية بندقيتي . لم أرد أن أطلق النار منها , لو أمكنني هذا , حتى لا يسمع المتوحشون الآخرون الطلقة ويهاجمونني . مع هذا عندما أتى المتوحش الثاني كان لديه قوس وسهم . سحب قوسه ليطلقه علي , وهكذا لم يكن لدي أي اختيار سوى إطلاق النار عليه . أطلقت النار وقتلته على الفور .
خاف السجين المسكين من تجربته خوفاً شديداً إلى حد أنه وقف ساكناً . مع أنه رأى كلا عدويه يستقران على الأرض لم يتقدم ولم يرجع إلى الخلف . أشرت إليه ليقترب ففهم بسهولة . خطا بضع خطوات إلى الأمام ثم توقف ثانية . وقف مرتجفاً كأنه توقع أن أطلق النار عليه أيضاً . أشرت إليه كل إشارة تشجيع أمكنني التفكير فيها وابتسمت له . أخيراً تقدم مباشرة إلى وركع عند قدمي . قبّل الأرض أمامي وأخذ قدمي ووضعها على رأسه . أخذت هذه بأنها طريقته للقسم على أن يكون خادمي إلى الأبد .
حين رفعته على قدميه بدأ يتكلم إلي . لم أفهم كلمة مما كان يقوله , لكنه كان من السار جداً سماعه . كان الصوت البشري الأول الذي سمعته منذ خمسة وعشرين سنة .
بدأ المتوحش الأول الذي طرحته يستعيد قواه ويجلس معتدلاً . حين رأيت هذا سددت بندقيتي عليه كأنني سأطلق النار . أشار خادمي , كما سأدعوه الآن , إشارة لي . أراد السيف الذي تدلى من حزامي . حين أعطيته له جرى نحو عدوه وقطع رأسه وفصله عن جسمه . ثم وبابتسامة نصر جرى نحوي ووضع السيف ورأسه عند قدمي . لم يفهم كيف قتلت المتوحش الآخر من هذه المسافة . أشار إليه وأشار إشارات إلي بأن أسمح له بأن يذهب إليه . حين أتى إلى المتوحش بدا مرتبكاً جداً . أدار الجثة أولاً على جانب ثم على جانب آخر ونظر إلى الجرح الذي أصابته به البندقية . ثم جمع القوس والسهم وأعادهما إلي .
استدرت لأبتعد وأشرت إليه إشارات بأن يتبعني . لم أرد أن أكون قريباً حين يأتي المتوحشون الآخرون بحثاً عن الرجلين الميتين . أشار خادمي لي بأننا يجب أن ندفن الجثتين قبل أن نغادر . بدأ العمل بسرعة وحفر حفرة في الأرض بيديه وجر الجثة الأولى أولاً . غطاها نهائياً ثم بدأ في حفر حفرة ثانية . عمل بسرعة كبيرة حتى أنه أكمل عمله خلال ربع ساعة . ثم أخذته إلى الكهف الذي وجدته في النهاية الأقصى من الجزيرة .
هنا أعطيته بعض الخبز والزبيب وبعض الماء ليشربه . وجدت أنه كان جائعاً وعطشاً جداً . حين أنهى طعامه أشرت إلى بعض القش الذي له بطانية مفرودة على قمته . تمدد وسرعان ما نام . أظن أنه كان منهكاً تماماً من تجاربه .
فيما هو يتمدد نائماً أصبحت قادراً على أن أنظر إليه بإمعان أكثر . كان جيد البنيان والمظهر مع رجلين مستقيمتين وقويتين . افترضت أنه كان في حوالي السادسة والعشرين . كان شعره أسود وطويلاً , ليس مجعداً كصوف . كان وجهه مستديراً , وكان أنفه صغير لكنه سمين , وكان له فم جيد جداً بشفتين رفيعتين . كانت أسناه الرائعة جيدة الوضع وبِيض كعاج .
حين استيقظ بدأت أتكلم إليه وعلمته كيف يتكلم إلي . أولاً علمته أن يقول اسمه . دعوته جمعة باسم اليوم الذي أنقذته فيه . وعلمته أن يقول : " سيدي . " وتركته يعرف بأن ذلك سيكون اسمي . بقينا في الكهف طيلة الليل , لكن حالما حل النهار انطلقنا إلى بيتي . في طريق العودة مررنا بالمكان حيث كنا قد دفنا المتوحشين الاثنين . عمل جمعة كأنه يحفر مخرجاً الجثتين . بإشاراته بدا لي أنه يريد أن يأكلهما . غضبت غضباً شديداً وأخبرته أن يتقدم ويبتعد عنهما .
قبل الذهاب إلى البيت صعدنا إلى التل لنتأكد تماماً من أن المتوحشين كانو قد رحلوا . سحبت مرقابي وبحثت في الشاطئ مدققاً . لم تكن هناك أي إشارة لأي من المتوحشين أو قواربهم الكانو . لابد أنهك كانو قد ذهبوا دون أن يزعجوا أنفسهم بالبحث عن رفيقيم الاثنين .
هبطنا إلى الشاطئ وأتينا إلى المكان حيث كان المتوحشون . فيما أنا أبحث , غطس قلبي وارتجفت بما رأيت . كان الرمل أحمر من الدم وكانت العظام في كل مكان . وأخبرني جمعة بالإشارات بأنه كانت هناك معركة كبيرة بين قبيلته وقبيلة المتوحشين . كان هو أحد السجناء الذين أُخذوا خلال المعركة . أخذ المتوحشون سجناءهم إلى أماكن مختلفة ليُقتلوا ويؤكلوا .
عند العودة إلى البيت فصلت بعض الملابس لجمعة . عملت له بنطالاً ومعطفاً من جلد الماعز . وخطت له طاقية من جلد أرنب بري . سُرَّ سروراً عظيماً بهذه الملابس وسرعان ما تعلم كيف يرتديها ويتجول في الأنحاء وهو يرتديها .
في البداية نام في ملجأ أعددته له خارج السور الداخلي . أخذت السلم وكل البنادق إلى الداخل . لم يكن جمعة يستطيع الوصول إلي سوى بالتسلق فوق السور . كان هذا سيثير ما يكفي من الضجة لتوقظني . لكنني ما كان علي أن أقلق . ما كنت أردت خادماً أكثر حباً وإخلاصاً منه . كان سريعاً جداً في تعلم كيف يفهمني وأيضاً كيف يتكلم إلي . كان من السار جداً أن أجد شخصاً أتكلم إليه . بالمساعدة التي قدمها إلي جمعة أصبحت حياتي أسهل وأظن أنني كان يمكنني أن أقيم في الجزيرة إلى الأبد , لولا وجود المتوحشين .
أعتقد أن جمعة كان سيعبدني ويعبد البندقية لو سمحت له بهذا . فلبعض الوقت لم يكن ليلمس البندقية بل يتكلم إليها كأنها تجيبه . عرفت فيما بعد أنه كان يطلب من البندقية ألا تقتله
الفصل العاشر
قارب كانو آخر يُبنى
بدأت أبهج سني إقامتي في الجزيرة الآن . علمت جمعة أن يسخن الذرة ويخبز الخبز . خلال وقت قصير أصبح قادراً على القيام بالعمل كله تماماً كما استطعت أنا أن أقوم به . بدأ يتكلم جيداً تقريباً ليفهم أسماء كل شيء أردته . كان سروراً عظيماً لي أن أصبح قادراً على الكلام إلى شخص ثانية بعد كل هذه السنين .
سألته عن مدى بعد البر الرئيسي عن الجزيرة وعما إذا كانت قوارب الكانو دائماً ما تضيع غالباً في البحر . بدا أن لديه فكرة ضئيلة جداً عن المسافات , لكنه أخبرني أن هناك خطراً ضعيفاً جداً وأن قوارب الكانو نادراً جداً ما تضيع . قال إن هناك , وعلى مسافة قريبة داخل البحر , تياراً وريحاً . في الصباح يتجه التيار في طريق واحد وفي فترة ما بعد الظهر يتجه في طريق آخر . من هذا فهمت أنه كان يتكلم عن حركات المد والجزر .
أخبرني جمعة عن شعبه الذين دعاهم بالكاريبيين . قال أيضاً بأنه على مسافة طويلة وراء الشمس الغاربة , عاش رجال مثلي ببشرة بيضاء ولحى .
قال جمعة : " إنهم يقتلون كثيراً من رجل . "
افترضت أنه كان يتكلم عن الإسبان . فقد كانت قسوتهم في جنوب أميركا معروفة حتى في أوروبا .
سألته : " هل ترى أن من الممكن الوضول إلى بلادهم ؟ "
أجاب : " نعم , نعم , يمكنك الذهاب إليها في قاربيّ كانو اثنين . "
بذلك عنى أن الإنسان يحتاج إلى قارب أكبر بحجم قاربيّ كانو اثنين .
بدوري أخبرت جمعة عن شيء من قصتي . وصفت له حياتنا في إنجلترا وكيف أنني تركت وطني وأتيت إلى البحر . وصفت كيف تحطمت السفينة التي كنت أبحر بها . حين سمع هذا جمعة استغرق في التفكير . قال بعد بعض الوقت : " أنا أرى قارباً هكذا يأتي إلى قومي . "
في البداية لم أفهم ما كان يحاول أن يخبرني به . ثم أدركت بأنه كان يقول بأن سفينة مثل سفينتنا كانت قد حطمتها عاصفة على شواطئ بلاده هو . وصفها لي ببعض التفصيل ثم أضاف شيئاً أثار اهتمامي إلى حد عظيم .
قال : " نحن ننقذ رجلاً أبيض من الغرق . "
سألت : " كم رجلاً أبيض كان هناك .؟ "
عد على أصابعه ليريني أن هناك سبعة عشر رجلاً في المجموع . تابع جمعة القول بأن الرجال البيض كانوا لا يزالون هناك وظلوا يعيشون من شعبة لمدة أربعة سنوات . سألته لماذا لم يقتل شعبه الرجال البيض ويأكلونهم .
أجابني : " عملوا أخاً معهم . شعبي لا يأكلون أي رجل إلا حين يشنون حرباً . "
ذات يوم حين كان الطقس صافياً جداً كنت أنا وجمعة على قمة تل في الجانب الشرقي من الجزيرة . نظر جمعة عبر البحر واُثير جداً . دعاني إلى جانبه وأشار بأصبعه .
قال : " يا للفرح , يا للفرح . هناك , انظر إلى بلادي . هناك قومي . "
سألته ما إذا كان يحب أن يعود إلى شعبه مرة أخرى .
أجاب : " نعم , سأكون مسروراً كثيراً لأن أكون عند قومي أنفسهم . "
سألت : " ما الذي ستفعله هناك ؟ هل ستتحول إلى متوحش مرة أخرى , تأكل لحم البشر وتصبح متوحشاً كما كنت من قبل ؟ "
" لا , لا , جمعة يخبرهم أن يعيشوا جيداً . جمعة يخبرهم أن يأكلوا خبزاً ولحم ماعز وأن يشربوا حليباً . لا يأكلون لحم رجلون ثانية . "
قلت : " لماذا ؟ إذن من المؤكد أنهم سيقتلونك . "
أجاب جمعة : " لا , هم لا يقتلوني . إنهم يرغبون في التعلم . "
حين سألته ما إذا كان سيعود إلى شعبه , قال جمعة بأنه ليس لديه أية قارب كانو وأنه لا يمكنه أن يسبح بعيداً جداً إلى هذا الحد . وعدت أن أصنع قارب كانو له , لكن جمعة لم يرد أن يذهب وحيداً .
استغربت : " لماذا ؟ سيأكلوني لو ذهبت معك . "
أجاب جمعة : " لا , لا , إنهم لا يأكلونك . إنهم لطفاء معك كما هم لطفاء مع الرجال البيض الآخرين . "
كان واضحاً أن جمعة أراد مني أن أغادر الجزيرة لأذهب معه لأنضم إلى قومه . بالرغم من هذا , فكرت أنه من الأفضل أن أبقى في الجزيرة وأن يذهب جمعة بدوني . حين أخبرته بهذا حزن حزناً شديداً جداً وابتعد عني . سرعان ما عاد بعد وقت قصير ومعه فأس .
قال : " هاك , خذ . أنت تقتل جمعة . لماذا تُبعد جمعة عنك ؟ أفضل أن تقتله . "
حالما قال هذه الكلمات رأيت في عينيه دموعاً . أخبرته حينئذ , وفي مرات عديدة فيما بعد , بأنني ما كنت سأبعده في الوقت الذي يريد هو أن يبقى . وجدت أنه يريد أن يعود للوطن وأنني يجب أن أذهب معه وأساعد قومه .
قال : " أنت التعلم الرجل المتوحش ليكون أليفاً , تخبرهم أن يعرفوا الله , أن يصلوا إلى الله . أنت تعلمني خيراً , أنت تعلمهم خيراً . "
مع أن جمعة لم يرد أن يتركني , قررت أن أبني قارب كانو آخر , وانطلقت في الأرجاء باحثاً عن شجرة مناسبة لصنع القارب . خططت أن أبني قارباً أكبر من قاربي الأول ووجدت بعض الصعوبة في الحصول على شجرة كبيرة تماماً , كانت أيضاً قرب الماء . أخيراً وجد جمعة شجرة , وبعد أن أسقطها , بدأنا في تجويفها . أراد جمعة أن يحرق داخلها , لكنني أريته كيف أفعل هذا بالأدوات التي كانت لدي . سرعان ما تعلم كيف يستعملها . في حوالي مدة شهر من الزمن أنهينا تشكيل قارب الكانو وأصبح جاهزاً لينطلق . استغرقنا أسبوعان آخران لجر القارب بوصة بوصة إلى الشاطئ إلى أن طفا في البحر .
حين حلّ القارب في الماء رأيت أنه سيحمل عشرين رجلاً بسهولة . مع أن القارب كان كبيراً جداً استطاع جمعة أن يوجهه بسهولة تامة بمقذافه . مع هذا , خططت أن أضع سارية وشراعاً , ومرساة أيضاً .
استغرقت هذه الأمور الإضافية حوالي شهرين لصنعها وتركيبها . إضافة إلى الشراع الرئيسي أضفت شراعاً أمامياً صغيراً , حتى أن قارب الكانو كان سيدور بسرعة أكبر في الريح . وصنعت أيضاً ذراع دفة , حتى يكون من السهل توجيهه . حين اكتمل هذا العمل كان علي أن أعلم جمعة كيف أبحر بالقارب . مع أنه كان خبيراً بالمجذاف , لم يكن يعرف أي شيء عن الإبحار بالشراع .
خلال موسم المطر أبقيت قاربنا الكانو تحت السقيفة . أثناء وجود مد عالٍ سحبناه إلى أعلى لشاطئ . حفر جمعة حوضاً صغيراً كان كبيراً فقط ليستوعب القارب وعميقاً تماماً بالنسبة إليه ليطفو فيه . حين انحسر المد عن الشاطئ بيننا سداً عبر المدخل لتبقي الماء خارجه .؟ ثم غطيناه بفروع من الأشجار وهناك استقر إلى أن توقفت الأمطار
الفصل الحادي عشر
زوار أكثر إلى الجزيرة
ذات صباح طلبت من جمعة أن يذهب إلى شاطئ البحر ليرى إذا ما كان يمكنه أن يجد سلحفاة . لم يكن قد ذهب إلى مسافة بعيدة حين عاد جارياً .
صاح بصوت عال : " أوه سيدي , أشياء سيئة يا سيدي ! "
سألته : " أي أشياء سيئة يا جمعة ؟ "
أشار نحو الشاطئ .
قال بصوت خائف جداً : " كاون واحد واثنان وثلاثة . "
حاولت أن أطمئنه لكن لم يكن هناك فائدة . لم يكن هناك أي شيء يمكنني قوله له يقنعه بأن المتوحشين لم يعودوا للبحث عنه فقط . كان متأكداً من أنهم سيقطعونه إلى قطع ويأكلونه .
أخبرته : " إذا هاجمونا سنقاتلهم . "
أجاب : " أنا قاتل أيضاً . لكن هناك يأتي الكثير جداً بالنسبة إلينا . "
أجبت : " ذلك لا يهم يا جمعة . ستخيف بنادقنا أولئك الذين لن نقتلهم . "
ذهبت إلى البرميل أولاً حيث لا يزال لدي بعض شراب الروم . شربت بعضاً منه أنا نفسي ومن ثم أعطيت بعضه لجمعة لأثبت أعصابه . أعددت بنادقي وساعدني جمعة . حين شحنت كل البنادق والمسدسات علقت سيفي إلى جانبي وأعطيت جمعة فأساً . ثم , وبعد أن أخذت مرقابي , تسلقت أنا وجمعة التل لأرى كم من المتوحشين أتى هذه المرة .
رأيت أن هناك واحداً وعشرين متوحشاً في المجموع وكان لديهم ثلاثة سجناء . رسوا هذه المرة في مكان أقرب كثيراً إلى بيتي . كان الشاطئ هنا منخفضاً , ووصلت غابة كثيفة إلى حافة الرمل . لم أشك بأن المتوحشين نووا أن يقتلوا ويأكلوا سجناءهم , وقد أغضبني التفكير في هذا غضباً شديداً حتى أنني قررت أن أهاجمهم بمساعدة جمعة . بانتقالي حوالي ميل داخل اليابسة تمكنت من شق طريقي في الغابة خلفهم . لحسن الحظ , وصلت إلى مسافة ضمن نطاق إطلاق النار على المتوحشين دون أن أُكتشف .
دخلت الغابة بأسرع ما أمكنني وجمعة يتبعني عن قرب خلفي . حين كنت على حافة الغابة على مسافة أقرب من المتوحشين ناديت بصوت رقيق على جمعة . أريته شجرة كبيرة وطلبت منه أن يتسلقها ويى ما إذا كان يمكنه أن يرى أي شيء .
حين عاد أخبرني أن المتوحسين كانوا يجلسون حول النار يأكلون أحد سجنائهم . كان سجين آخر يجلس بالقرب منهم وهو مربوط بحبل . أخبرني جمعة بأنه رجل أبيض بلحية . ملأني هذا بالرعب وذهبت أنا بنفسي إلى الشجرة ونظرت من خلا مرقابي . بوضوح فقط رأيت رجلاً أبيض يتمدد على الرمل ويداه وقدماه مربوطتان .
أردت أن أجري نحو المتوحشين مباشرة لكنني أدركت أن هذا سيكون بلاهة . كانت توضع بعض الشجيرات بيني وبين النار حيث كانوا يجلسون . لو أنني كنت أستطيع الوصول إليهم دون أن أُرى لكنت قادراً على مفاجأتهم . بعد أن خطوت بحذر كبير عدت راجعاً حوالي عشرين قدماً وسلكت طريقي بهدوء غبر الغابة , إلى أن أتيت إلى الشجيرات .
لم تكن هناك أية لحظة أضيعها . كان تسعة عشر شخصاً من المتوحشين يجلسون حول النار . كان الآخران أُرسلا لقتل السجين الآخر . أشرت إلى جمعة لكي ينضم إلي وسرعان ما كان بجانبي .
قلت : " الآن يا جمعة , افعل تماماً كما أطلب منك . ضع بندقياتك على الأرض واستخدم الخردق . حسناً , الآن أنت جاهز لإطلاق النار . "
أومأ جمعة برأسه بسرعة .
أمرت : : إذن اطلق ! "
انطلقت بندقيتانا معاً . كان تصويب جمعة أفضل من تصويبي . بطلقاته الأولى قتل اثنين من المتوحشين وجرح ثلاثة آخرين . بطلقاتي قتلت واحداً فقط وأصبت اثنين .
لابد أن تتأكدوا أن فزعاً تاماً حل بين المتوحشين . قفز كل الذين أُصيبوا واقفين على أقدامهم . لم يعرفوا من أين تأتي الطلقات ولا إلى أي طريق يجرون لتحقيق سلامتهم . وضعت بندقيتي في الخردق جانباً وتناولت بندقية أخرى في من الرمل . فعل جمعة الشيء نفسه واستعد ليطلق النار مرة أخرى .
سألت : " هل أنت مستعد يا جمعة ؟ "
" نعم . "
" إذن اطلق النار . "
أطلقنا النار مرة أخرى لكننا قتلنا اثنين فقط هذه المرة . جُرح الكثيرون وجُرُّوا في الأنحاء صاخين وصائحين كأنهك كانوا مجانين . التقطت بنادق الخردق الأخرى وناولت بندقية لجمعة .
قلت : " الآن اتبعني . "
بهذا القول اندفعت خارجاً من الغابة وجمعة خلفي . حالما رآني المتوحشون صرخت بأعلى صوت أمكنني إطلاقه . اتجهت مباشرة نحو السجين الذي كان وحيداً الآن . كان المتوحشان اللذان على وشك أن يقتلاه قد هربا وقفزا داخلين قارب كانو . تبعهما ثلاثة من المتوحشين الآخرين . طلبت م جمعة أن يطلق النار عليهم . جرى على الشاطئ ليكون أقرب إليهم وأطلق النار عليهم . ظننت في بداية الأمر أنه كان قد قتلهم أو جرحهم كلهم , فقد سقطوا كلهم في كومة داخل القارب . نهض اثنان منهم بسرعة ورأيت أنه قُتل اثنين وجرح واحداً .
بينما كان جمعة يطلق النار على المتوحشين , سحبت بندقياتي وقطعت الحبال التي ربطت السجين المسكين . رفعته على قدميه لكنه كان ضعيفاً جداً حتى أنه لم يكد يستطع أن يتوقف أو يتكلم . أخذت قنينة شراب الروم من جيبي وطلبت منه أن يشرب . أعطيته أيضاً قطعة من الخبز أكلها . سألته من أي بلد أتي فأخبرني أنه إسباني .
عندئذ استعاد قوته قليلاً وعرفني كم كان ممتناً لي لإنقاذه حياته .
قال بما أمكنني تذكره من اللغة الإسبانية : " سيدي , سنتكلم فيما بعد , لكن علينا أن نقاتل الآن . لو كنت تتمتع بأي قوة باقية خذ المسدس والسيف . "
أخذ المسدس ووضعه في حزامه . ثم أخذ السيف وجرى إلى المتوحشين . قطع اثنين منهم إلى قطع . في أثناء ذلك , أرسلت جمعة إلى الشجيرات حيث كنا قد أطلقنا طلقاتنا الأولى . طلبت منه أن يحضر لي كل بندقياتي التي أبقيناها هناك . لم أكن قد أطلقت كل بندقياتي بعد فأنا لم أرغب في أن يمسك بي وأنا بلا وسيلة دفاع . حالما عاد جمعة أعطيته بندقيتي ليحميني بها بينما رحتُ أعيد شحن كل البنادق الأخرى .
بينما كنت أقوم بهذا هاجم أحد المتوحشون الإسباني من الخلف . كان الإسباني زميلاً شجاعاً لكنه كان ضعيفاً بسبب بقائه سجيناً طيلة هذه المدة الطويلة من الزمن . قاتل جيداً وجرح المتوحش مرتين في الرأس , لكن المتوحش كان أقوى منه وأخيراً رمى بالإسباني على الأرض . ثم أمسك المتوحش بسيف الإسباني ولواه في يده وأخذه منه . كنت أجري لمساعدته , حين وصل الإسباني إلى المسدس في حزامه وأطلق النار على المتوحش في جسده . سقط ميتاً على الفور .
جرى جمعة وراء المتوحشين الثلاثة الذين كنا قد جرحناهم وقتلهم بفأسه . أخذ الإسباني بندقية من النادق التي أعدت شحنها وجرح اثنين آخرين من المتوحشين . حين هربا لم يستطع أن يرجي بسرعة كافية ليتبعهما وهربا إلى داخل الغابة . جرى جمعة وراءهما بسرعة وسرعان ما قتل واحداً منهما بينما جرى الآخر بسرعة إلى الشاطئ وسبح خارجاً إلى قارب الكانو . كان متوحشان آخران قد ركبا قارب الكانو مع شخص آخر كان جريحاً . هرب هؤلاء الأربعة وكانو المتوحشون الوحيدون الذين هربوا من بين المجموعة كلها .
أطلق جمعة طلقتين وراءهم لكنهم كانوا أبعد جداً من أن يتعرضوا لأي خطر . سألني ما إذا كا يستطيع أخذ قارباً من قوارب الكانو ويتبعهم . وافقت على الفور فلم أردهم أن يعودوا إلى شعبهم بأخبار ما قد حدث . تخيلت أنه في لكح البصر سيغزوا مائتان أو ثلاثمائة من المتوحشين الجزيرة لأخذ ثأرهم .
ركضت مع جمعة إلى أحد قوارب الكانو وكنت على وشك أن أقفز فيه حين لاحظت سجيناً آخر في قاعه . كانت يداه وقدماه مغلولتين وكان ميتاً تقريباً من الخوف . كان قد سمع الطلقات والصرخات ولم يكن يعرف ما حدث . كان مربوطاً بإحكام شديد حتى أنه بالكاد يتحرك .
قطعت الحبال التي أمسكت بيديه وقدميه وحاولت مساعدته على الوقوف . كان أضعف من أن يقف واستلقى في قارب الكانو وكان يئن , أظن أنه اعتقد أننا فككنا رباطه فقط لنقتله . حالما رآه جمعة بدأ يحضن ويقبّل هذا السجين . ثم صاح , وقفز وغنى وقفز من مكان إلى آخر كأنه مجنون . مر وقتاً طويلاً قبل أن أتمكن من حمل جمعة على الكلام إلي ويخبرني لماذا كان مثاراً إلى هذا الحد . حين هدأ قليلاً أخبرني أن الرجل في قاع القارب كان أباه .
بدأ جمعة يفرك رجلي أبيه ليحاول أن يعيد بعض الحياة إليهما . جعلتنا كل هذه الإثارة ننسى ملاحقة المتوحشين . كما حدث , كان من حسن الحظ أننا لم نفعل هذا لأن عاصفة عنيفة هاجت بعد ساعتين . كانت الأمواج عالية جداً لدرجة أنني شككت بأن المتوحشين سيصلون إلى موطنهم في أي وقت وهم أحياء . ظننت أننا لو كنا لاحقناهم لكنا متنا أنا وجمعة غرقاً .
الفصل الثاني عشر
ضيوف كروزو في الجزيرة
حين استعاد أبو جمعة وعيه قليلاً استدعيت دعوت خادمي إليّ . سألت ما إذا كان قد أعطى أباه أي خبز يأكله . أخبرني بأن ليس لديه شيئاً يعطيه له . مددت يدي إلى داخل كيسي وأعطبته خبزاً وزبيباً ليأكله وقليلاً من الروم ليشربه . لم يكد جمعة يعطي أبوه الطعام حتى جرى مبتعداً يأرسع ما يمكنه .
قبل أن أمتشف أين كان يذهب جمعة , أو ما نوى فعله , اختفى عن الأنظار . عاد بعد ساعة ومعه جرة مليئة بالماء العذب وبعض المزيد من الخبز . رشفت رشفة صغيرة من الماء ثن لأخذها جمعة إلى أبيه . كان الرجل العجوز عطشاً جداً وبدا أن الماء يفعل به خيراً من الروم الذي شربه للتو . حين أنهى أبو جمعة الشرب طلبت إلى الخادم أن يأخذ الماء إلى الإسباني , الذي بدا في حاجة ماسة للماء قدر حاجة أبي جمعة .
كان الإسباني يستقر على العشب تحت الشجرة . حين عرض عليه جمعة الماء جلس معتدلاً وشربه بلهفة . أخذت له بعض الخبز وبعض الزبيب الذي أكله بسرعة . حين انتهى أشرت إليه إشارات أن يأتي إلى قارب الكانو , لكنه لم يكن يستطيع بعد القتال أن يقف على قدميه على نحو سليم . رفعه جمعة بين ذراعيه , ووضعه على ظهره وحمله إلى قارب الكانو . هنا خفض الإسباني بلطف إلى أن استقر بجانب والد جمعة . ثم دفع القارب خارجاً في الماء وجذف به في أنحاء الخليج قرب بيتنا . انطلقت لأذهب إلى البيت سيراً على الأقدام . حالما وصل جمعة إلى الخليج , أحضر قارب الكانو إلى الشاطئ ومن ثم جرى ليحضر قارب كانو آخر . كان سريعاً في هذا جداً حتى أنني بالكاد عدت إلى الخليج قبل أن يجذف جمعة بقارب الكانو الثاني إلى الشاطئ .
كان ضيوفنا الجدد غير قادرين على المشي من قارب الكانو إلى بيتنا . صنعت نوعاً من نقالة حملناها أنا وجمعة بيننا . حين وصلنا إلى السور الخارجي واجعتنا مشكلة طيف ندخل الضيوف إلى الداخل . لم نستطع رفع النقالة من فوق السور ولم يستطع الضيوف تسلق السور . حللنا المشكلة بصنع خيمة بشراع قديم ونصبناها خارج السور . كان في داخل الخيمة فراشان من القش مغطيان بأغطية . هنا سيقيم ضيفانا إلى أن نتمكن من إدخالهما إلى داخل الأسوار .
بدأ جمعة في طبخ وجبة , وحالما كانت جاهزة جلست مع ضيوفي لنأكل . كانت جزيرتي الآن مثل مملكة صغيرة . كنت الملك وجلست حول الطاولة حيث كان شعبي . تصرف جمعة كمترجم وأنا أتحدث إلى أبيه . سألت الرجل العجوز ما الذي فكر بأنه حدث مع المتوحشين الذين فروا في قارب الكانو . أجاب بأنه فكر بأنهكك كانوا قد غرقوا في العاصفة . فكر : حتى إذا كانوا قد وصلوا إلى بيوتهم , كانوا خائفين جداً من البنادق إلى درجة أنهم لن يعودوا . بينما الوقت يمضي , ولم يظهر أي قارب كانو , وصلت إلى استنتاج أنه كان على حق .
حين تكلمت إلى الإسباني علمت أن هناك تسعة عشر شخصاً من بلده يعيشون في البر الرئيسي . كانوا قد أُنقذوا من حطام السفينة ويعيشون في سلام جنباً إلى جنب مع المتوحشين .
تابع : " الحياة قاسية جداً في البر الرئيسي , ونحن نفتقر إلى أشياء كثيرة نحتاج إليها . "
سألت : " من أين أتيت حين تحطمت سفينتك ؟ "
أجاب : " جئنا من نهر بلات في الأرجنتين وكنا نتجه إلى هافانا . "
" كيف حدث أنك لم تحاول الهرب أبداً والعودة إلى أسبانيا ؟ "
" غالباً ما تكلمت عن هذا لكن خططنا دائماً كانت تؤدي إلى لا شيء . "
" هل تظن أن رفاقك سيرغبون في أن يأتوا إلى هذه السفينة ومن ثم يهربون معي ؟ "
حين أجاب الإسباني أخبرني بأن حياتهم كانت قاسية جداً حتى أنهم سيرحبون بأي فرصة للهرب . اقترحت أن يعود إلى البر الرئيسي مع جمعة ويبحث الموضوع من زملائه من أبناء بلاده . وإذا رغبوا في أن يأتوا إلى الجزيرة فإنهم يمكنهم أن يعودوا معه في قارب كانوا كبير .
شكرني الإسباني لعرضي , لكنه سأل إذا ما كان لدينا ما يكفي من طعام في الجزيرة لإطعام رفاقه إضافة إلى إطعامنا نحن أنفسنا . كانت هذه مشكلة لم أفكر بها , ورأيت بأننا سنحتاج إلى زراعة المزيد من الحبوب إذا أصبح لدينا الكثير من الناس إلى هذا الحد في الجزيرة . في النهاية , قررنا أن نزرع أرضاً أكثر ونستعمل كل احتياطاتنا من البذور . بحلول وقت الحصاد التالي سيكون لدينا ما يكفي من حبوب ليُطعم الكل .
الآن , وقد كان هناك الكثير جداً منا في الجزيرة إلى هذا الحد في الجزيرة , ان يمكننا أن نتجول في أنحاء الجزيرة بلا خوف من المتوحشين , وانطلقت في الأنحاء مُزيداً عدد قطيعي من الماعز . فعلت هذا بالإمساك بعشرين جدياً صغيراً وتربيتهم . بحثت أيضاً في الجزيرة إلى أن وجدت جزءاً وافراً حيث الأعناب كانت وفيرة . التقطنا أمبر كمية أمكننا حملها معنا , وحين عدنا إلى البيت , علقناها في الشمس لتجف . حين كان حصاد الشعير والرز جاهزاً أصبح لدينا ما يكفي من حبوب ليدوم لدينا حتى الحصاد التالي , حتى لو أتتي المجموعة كلها من البر الرئيسي .
الآن , وقد أصبح لدينا مل يكفي من طعام لكل ضيوفنا , أخبرت الإسباني أن يستعد لرحلته . أخذ هو وأبو جمعة قارباً من الكانو الذي أُحضِرا به إلى الجزيرة كسجينين . فيه وضعوا ما يكفي من طعام لهما وما يكفي من طعام لمواطنيهما لمدة ثمانية أيام . أعطيتهما بندقية لكل واحد منهما وبعض الذخيرة في حالة ما إذا وقعا في متعب .
بعد أن تمنيت لهما رحلةً طيبة راقبتهما وهما ينطلقان . اتفقنا على الإشارة التي سيطلقونها عند عودتهم . كان هذا إلى الحد الذي يجعلني لا أخطئ وأحسب أنهم هم القادمون بدلاً من المتوحشين .