الفصل الخامس
روبنسون كروزو يبني منزله
أخيراً وجدت مكاناً مناسباً أعيش فيه . كان سهلاً صغيراً على سفح تل . كان السهل يرتفع من التل حتى أن شيئاً لم يكن يمكن أن يهبط عليّ من أعلى . كانت الأرض المنبسطة على مسافة حوالي مائتي ياردة طولاً ومائة ياردة عرضاً . انحدرت النهاية الأقرب من البحر إلى الأسفل بلطف نحو الأرض المنخفضة المؤدية إلى الشاطئ . كان السهل على جانب التل , الذي كان محمياً من الشمس حتى المساء .
قبل أن أنصب خيمتي , وقفت وظهري إلى سفح التل , مواجهاً البحر . خطوت عشر خطوات للأمام ووضعت علامة . ثم عدت إلى موضعي السابق وخطوت عشر خطوات , أولاً إلى اليسار وبعدئذٍ إلى اليمين . جمعت هذه العلامات بحبل لتكوِّن نصف دائرة . حول طرف نصف الدائرة , وضعت صفين من أوتاد قوية . وقفت على بعد خمسة أقدام من الأرضية وكانت لها حافات حادة . ثم أخذت أطوال الكوابل , التي أخذتها من السفينة , ووضعتها في صفوف الأوتاد . أخيراً , قطعت بعض الأوتاد الأصغر ودفعت بها في داخل الأرض مكونة زاوية , حتى أنها تصرفت كدعائم لأوتاد أكبر . كان السياج الآن قويً جداً حتى أنه لم يكن أي إنسان أو أي حيوان يستطيع أن يصل من فوقه أو من خلاله . خلفي , كوَّن جانب التل المنحدر دفاعاً طبيعياً .
لم أضع فتحة باب كي أدخل إلى داخل الأوتاد , بل استعملت سلماً قصيراً لتسلق قمة السياج . حالما كنت أصل إلى الداخل كنت أرفع السلم ورائي , حتى أصبح محاطاً بالسياج وسالماً بالكامل . أحضرت إلى الداخل كل ذخيرتي , وطعامي وخزيني .
عملت خيمة كبيرة من شراع القنب ووضعت خيمة أصغر بداخلها , لكي أظلّ جافاً تماماً مهما كان المطر قاسياً . في الليل , كنت أنام مستريحاً جداً في شبكة نوم معلقة كانت تعود ذات مرة إلى أحد الضباط .
اعتدت كل يوم أن أخرج ببندقيتي , وسرعان ما اكتشفت أن هناك ماعزاً في الجزيرة . كانت خجولة جداً , تجري بسرعة , مما جعل من الصعب إطلاق النار عليها . لاحظت أنها لا تهرب بسرعة كبيرة , إذا كانت تتغذى في الوديان وأكون أنا على الصخور فوقها . بعد ذلك تسلقت دائماً الصخور أولاً . كانت الماعز الأولى التي أطلقت النار عليها وأصبتها ماعز أنثى إلى جانبها جدي صغير هو ابنها . حملت الماعز الصغير إلى بيتي على كتفي وحاولت أدجنه . لسوء الحظ لم يكن ليأكل أياً من الطعام الذي قدمته إليه , لذلك كان علي أن أقتله . زودني الماعزان بلحم طازج لبضعة أيام .
أدركت أنني سأفقد كل عدٍ للزمن إلا إذا عملت نوعاً ما من روزنامة . صنعت صليباً كبيراً من الخشب ووضعته على الشاطئ حيث رسوت . عليه نقشت الكلمات : " حللت على الشاطئ هنا في شهر أيلول الـ 30 في سنة 1659 " . على جوانب العمود القائم قطعت حزاً بسكيني كل يوم . في كل يوم سابع كنت أقطع حزاً بضعف طول هذا الطول . في اليوم الأول من كل شهر كنت أحز حزاً ضعف هذا الحز ثانية . على هذا النحو علمت مرور الزمن .
كانت هناك الكثير من الأشياء الأخرى أحضرتها من السفينة كان يجب أن أذكرها في وقت سابق . كان لدي الآن إمداد من أقلام حبر وورق . ثم أحضرت كل معدات إبحار السفينة , مثل البوصلات والخرائط البحرية . وجدت أيضاً ثلاثة أناجيل جيدة جداً أتتي مع حمولتي من إنجلترا . ولابد ألا أنسى أن أخبركم بأنني أنقذت قطتين وكلباً من السفينة . حملت القطتين إلى الشاطئ , بينما قفز الكلب في البحر وسبح حتى الشاطئ . كانت هذه المجموعة أصحابي في حياتي الموحشة .
جعل افتقاري للأدوات الصحيحة لأعمال أردت إنجازها عملي بطيئاً جداً . كانت قد مضت سنة قبل أن أكون قد أعددت بيتي كما أردته . بعد أن أكملت السياج أعددت نفسي لصنع طاولة وكرسي . ثم عملت بعض الأرفف على الصخرة في خلفية خيمتي , وأخيراً عملت حاملاً يمكنني تعليق بندقياتي عليه .
حين انتهيت سررت سروراً عظيماً في أن أرى كم من الأشياء الضرورية كانت لدي , وكيف رتبتها كلها على نحو جيد .
في حوالي هذا الوقت بدأت أحتفظ بمذكرات لما أفعله كل يوم . أُعيقت مهمتي في الكتابة بحقيقة أنه لم يك لدي أي شموع . حالما يحل الظلام , في حوالي السابعة عادة , كان علي أن آوي إلى الفراش . بعد بعض الوقت اكتشفت بأنني , بإبقائي بعض الدهن من أي ماعز أصيده , كان يمكنني أن أصنع مصباحاً , باستعمال قطعة صغيرة من حبل كفتيلة . قدم إلي هذا ما يكفي من نور لأصبح قادراً على أن أرى لأكتب مذكراتي , مع أنه لم يكن هناك في أي مكان تقريباً ما هو ساطع النور كشمعة .
ذات يوم , حين كنت أبحث عن شيء , عثرت صدفة على كيس صغير . في رحلتنا كنا قد حملنا بضع دجاجات , وكان هذا الكيس قد حمل الذرة لها لتأكلها . بدا أن معظم الذرة التي بقيت في الكيس قد أكلتها الفئران , لكن بعضها بقي في القاع . هززت البواقي على العشب خارج سياجي . كان هذا قبل أن يبدأ الموسم الممطر تماماً . بعد حوالي شهر لاحظت بعض الشتلات الخضر تبرز من الأرض . بعد وهلة قصيرة , اندهشت بأن رأيت بعد مدة تلك الشتلات تحولت إلى سوق شعير . حين نضج الحب فيما بعد احتفظت به بعناية وخططت أن أزرعه في السنة التالية . فعلت هذا لمدة سنين عديدة ومن ثم وجدت بأن لدي ما يكفي من الشعير لأصبح قادراً على استعمال بعضه لأغراض الخاصة . فعلت نفس الشيء مع بعض الرز الذي وجدته , ومع الشعير أصبحت قادراً على صنع بعض الخبز وبعض كعك الرز
الفصل السادس
روبنسون كروو يبدأ في اكتشاف جزيرته
في الخامس عشر من حزيران , بعد أن ظللت الجزيرة عشرة أشهر , بدأت أستكشف جزيرتي . في البداية ذهبت إلى أعلى النهر حيث كنت قد أحضرت طوفي إلى الشاطئ لأول مرة . يصبح النهر على مسافة ميلين من أعلى التيار , أصغر كثيراً والماء ندياً وصافياً . وفي اليوم التالي قطعت حتى مسافة أبعد داخل الجزيرة ووجدت أن المنطقة قد أصبحت مكسوة بالأشجار . كانت تنمو أنواع متنوعة من الفاكهة , بما في هذا البطيخ والأعناب . أكلت بعض هذه الفاكهة ووفرت بعض الأعناب , على نحو خاص , لآكلها فيما بعد . جففت بعض الأعناب في الشمس , حتى أحصل على زبيب آكله حين لا تكون هناك فاكهة طازجة في الجوار .
لم أعد للبيت في تلك الليلة لكنني نمت , كما نمت في ليلتي الأولى في الجزيرة , على شجرة . في الصباح التالي مشيت حوالي أربعة أميال وحللت في أجمل الوديان . هنا كان يوجد ينبوع صغير وبدا كل مكان أخضر ومبهجاً للنفس . بدا تقريباً مثل حديقة زُرعت خصيصاً بالفاكهة والأزهار .
أحببت المكان كثيراً جداً حتى أنني غالباً ما عدت هنا حخلال شهر تموز . فكرت تقريباً بالعيش هنا على نحو دائم , لكنني قررت ضد هذا حيث أن الوادي كان بعيداً جداً عن الشاطئ . بدلاً من هذا , قررت أن أبني مأوى صغيراً حتى يمكنني أن آتي وأبقى حينما أحب .
بدأت العمل على الفور , بانياً إياه حسب تصميم بيتي الأول . كان له سياج حوله كله وكنت أدخل إليه عن طريق سلم . بحلول بداية شهر آب كان العمل قد انتهى . كانت الأعناب التي جنعتها في وقت مبكر قد أصبحت الآن جافة تماماً , وأنزلت الكتل من على الشجرة حيث كانت معلقة . حين عدت إلى بيتي على الساحل أخذت معي بعض الزبيب . كنت مسروراً جداً بأنني فعلت هذا لأن السماء بدأت تمطر مطراً غزيراً بعد أسبوعين . أمطرت كل يوم بعد ذلك إلى منتصف شهر تشرين . أحياناً أمطرت بغزارة شديدة حتى أنني لم أستطع طيلة أيام بلا انقطاع أن أترك بيتي .
حالما توقفت الأمطار وأصبح الطقس مستقراً , قمت برحلة مرة أخرى إلى أعلى النهر . في الوادي وجدت كل شيء تماماً كما تركته . كانت الأوتاد , التي غرستها داخل الأرض , قد امتدت جذورها وحلت الشتلات الخضر في كل مكان يرى . مع مرور الأيام , أصبحت قادراً على تقليمها حتى أن بيتي أصبح محاطاً بسياج طويل أخضر . قررت أن أقطع بعض المزيد من الأوتاد لأعود بها إلى الساحل معي , لأرى ما إذا كان يمكنني أن أزلاع سياجاً مشابهاً حول بيتي الأول . استعلمت الفروع الأصغر من هذه الأوتاد لحبك سلاسل . كانت محاولاتي الأولى في هذا خاماً إلى حد ما , لكن بعد وقت أصبحت قادراً على أن أصنع سلة خدمت غرضي جيداً إلى حد كاف .
أردت أن أرى كيف يبدو الجانب الآخر من الجزيرة . لذلك أخذت بندقيتي , والفأس والكلب , وكمية من الطعام وانطلقت . حين كنت قد سافرت لبعد كافٍ لأرى الساحل , رأيت بأن هناك جزيرة أخرى على بعد حوالي عشرين ميلاً . عند لالوصول إلى الشاطئ الآخر من الجزيرة , سرعان ما وصلت إلى استنتاج أن هذا سيكون أفضل جانب للجزيرة للعيش فيه .
هناك بدا أنه يوجد عدد كبير من السلاحف على الشاطئ . على جانبي من الجزيرة رأيت ثلاث سلاحف فقط طيلة إقامتي كلها .وُجد أيضاً كثيراً من الطيور هنا , بما في هذا بعض ما منها ميزت كطيور بطريق . كان هناك المزيد من الماعز أيضاً , لكن , ولأن المنطقة كانت منبسطة , كان من الأصعب علي أن أصيدها بإطلاق النار عليها . استكشفت الشاطئ لمسافة اثني عشر ميلاً قبل أن أعود . نصبت عموداً كبيراً في الرمل لأحدد بعلامة أين كنت قد وصلت , وقررت أن أمشي حول الجزيرة في الاتجاه الآخر في تاريخ لاحق إلى أن أقابل عمودي .
أخيراً سلكت طريقي عائداً إلى بيتي الذي سررت كثيراً جداً في أن أراه ثانية . كنت الآن في الجزيرة لمدة سنتين دون أن تظهر علامة تدل على منقذ .
كنت أتوق للحصول على محصول جيد من الشعير والرز بعد موسم المطر . كان علي أولاً أن أتعامل مع نمطين من الأعداء . عدد من مخلوقات طويلة الأرجل , بدوْ مثل أرانب برية ظهرت وكانت ستأكل كل الشتلات الخضراء . سرعان ما عملت سياجاً أحاط بالمحصول , وفي الليل ربطت كلبي به . أبعد هذا الأرانب البرية , وما كدت أن أنهي السياج حتى بدأت أسراب طيور في الهجوم على الحب قبل أن ينضج . كان التعامل معها أصعب بكثير من التعامل مع الأرانب البرية . حين أطلقت نار بندقيتي ابتعدت , لكن إلى مسافة تصل إلى الأشجار . ما كان ظهري يستدير حتى تعود كلها طائرة إلى الحقل .
قررت أنني سأعلق أجسام الطيور التي أصطادهل على الحقل . أملت أن يخيف هذا الطيور الأخرى ويبعدها . لدهشتي وفرحتي هذا ما حدث ولم أعد أنزعج من الطيور ثانية . لذلك , وفي نهاية شهر كانون الأول أصبحت قادراً على حصد غلتي وجمعت في كيسين رزاً في كيسين ونصف كيس شعيراً . كنت راضياً جداً من هذا المحصول .
خلال موسم المطر أبقيت نفسي منشغلاً بكل أنواع التجارب . كانت واحدة من هذه التجارب صنع قوارير وجرار أخزِّن فيها الطعام والماء . فكرت أنني إذا وجدت مزيداً من الصلصال فسأتمكن من صنع بضع جرار . أملت أن الجرار , حين تحمَّص , ستكون قوية قوة كافية وقاسية تماماً لأستعملها . في البداية , تفتت الثير من جراري , فلم يكن الصلصال قاسياً إلى حد كافٍ لحمل ثقلها نفسه . تشققت جرار أخرى لأنني أبقيتها في الخارج في الشمس مدة طويلة جداً . بعد شهرين من العمل الشاق تمكنت من صنع جرتين كبيرتين . كانتا غير جيدتي الشكل وقبيحتين , لكنني كنت قادراً على استخدامها لخزن الحبوب .
لكنهما لم تستوعبا الماء . كيف يمكن فعل هذا ؟ فكرت بالمشكلة لمدة طويلة من الزمن وبعدئذٍ توصلت إلى الحل بالصدفة . ذات يوم أشعلت ناراً كبيرة لأتمكن من طبخ بعض لحم الماعز . بعد أن أنهيت الطبخ لاحظت قطعة مكسورة من الفخار في النار . كانت قد احترقت وتقسّت وأصبحت كحجر وكانت حمراء كطوبة . جعلني هذا أفكر كيف يمكنني أن أفكر كيف يمكنني ترتيب ناري حتى أحمص الفخاريات كلها .
في المرة التالية التي حاولت فيها صنع الفخار رتبت ناري حولها . ظللت أضع المزيد والمزيد من الخشب على النار إلى أن رأيت بأن الفخار أصبح ساخناً إلى درجة الاحمرار . أبقيتها في تلك الحرارة لخمس ساعات ثم وببطء تركت النار تخمد . راقبت الفخار طيلة الليل حتى لا تخمد النار بسرعة أكثر من اللازم . في الصباح وجدت أنني في هذه المرة صنعت بعض أوعية طبخ فخارية جيدة جداً , وإن لم تكن جميلة . كنت مسروراً جداً بعملي حتى أنني بالكاد انتظرت حتى بردت الأوعية الفخارية قبل أن أختبرها . ملأت واحدة من الأوعية الفخارية بالماء حالما بردت , وغليت الماء . لم يتسرب الماء من الوعاء , فأضفت بعض اللحم ووجدت أنني يمكنني أن أصنع حساءً جيداً جداً . الآن وقد أصبح لدي الكثير جداً من الحبوب أصبحت قادراً على أن أصنع خبزاً . احتجت إلى هاون لسحب الحبوب . لم أستطع أن أجد حجراً مناسباً لذلك استعملت كتلة من خشب قاس جداً . عملت تجويفاً صغيراً في وسطها بحرق الخشب وصنعت مطرقة من خشب معروف بخشب الحديد .
كانت مشكلتي التالية هي فصل القشرة عن الدقيق . أخيراً وجدت بعض القماش المصلي بين رزمة القماش التي أحضرتها من السفينة .
وقامت هذه بعمل منخل لعدة سنين .
كنت الآن مستعداً تماما لأبدأ الخبز ، لكن كان علي أولاً أن أضع تصميم فرن . هذا ما فعلته . صنعت مدفأة من آجر خبزته بنفسي . ثم صنعت بعض الأغطية الفخارية بطول حوالي قدمين وعرض تسعة بوصات . أشعلت ماراً عللى الآجر إلى أن أصبحت ساخنة حقاً . ثم كنست النار وأبعدتها ووضعت خبزي على الآجر وغطيتها كلها . ثم أشعلت النار حولها لها وتركت الخبز يُخبز . وجدت أنني يمكنني , بهذه الطريقة , أن أصنع لا خبزاً فقط بل معجنة أيضاً .
الفصل السابع
روبنسون كروزو يبني قارباً
بدأت ملابسي تتساقط قطعاً متناثرة . كان لدي الوفير من القمصان لكنني كنت أفتقر إلى البناطيل وسترات قصيرة . حل الوقت الآن كي أحاول مهارتي كخياط . كان لدي عدد من جلد الماعز أخذته من الحيوانات التي قنصتها بطلق النار عليها . مططت هذه الجلود وجعلتها تجف في الشمس . كان أول شيء صنعته هو قبعة , قم سترة وبنطالاً , ناسبتني هذه على نحو سيئ جداً لكنها أبقتني بارداً في الطقس الحار وجافاً في المطر . أنفقت الكثير من الوقت والجهد في صنع مظلة . كنت قد رأيتها تُصنع في البرازيل لكنني قمت بعدة محاولات قبل أن أنجح . المشكلة كانت أن أصنع مظلة تُطوى على الفور حين تُرفع . أخيراً أصبحت قادراً على صنع إطار سيهبط بها , وغطيته بجلد ماعز . أمكنني الآن أن أخرج , ليس فقط حين كانت تمطر , بل أيضاً في الضقس الأكثر حرارة .
طيلة هذا الوقت لم تبتعد فكرة الهرب من الجزيرة أبداً عن عقلي . تمنيت لو ظل قصوري معي وقارب الصيد بالشراع الطويل . كنت قد أبحرت تقريباً مسافة ألف ميل على طول الساحل الإفريقي فيه . ذكرني هذا بأحد قوارب سفينتنا الذي اكتُسح ودُفع إلى الشاطئ في جزء آخر من الجزيرة . فكرت بأنني سأذهب وأُلقي نظرة لأرى إن كان يمكن أن يُصلح . كان القارب لا سزال في الرمل حيث كانت العاصفة قد تركته . كان قد قُلب وفيه ثُقب كبير في أحد جوانبه . سرعان ما رأيت أنه يمكن أن يُستخدم بعد وقت قصير .
لذلك قلبت أفكاري في صنع ( كانو ) من جذع شجرة كبيرة . كنت متلهفاً جداً في صنع هذا الكانو حتى أنني لم أكف عن النفكير بالصعوبات التي قد تواجهني . لم يخطر ببالي أنني قد لا أكون قادراً على تنفيذ التصميم . ولم أفكر كيف يمكن أن أوصل قارب الكانو إلى داخل الماء حين أُنهيه .
وجدت شجرة أرز هائلة الحجم بعرض ستة أقدام عند قاع الجذع . بالأدوات البسيطة التي كانت لدي , استغرقت وقتاً طويلاً في قطع الشجرة وقطع كل الفروع . حين فعلت ذلك كانت لا تزال هناك مهمة تشكيل الجذع إلى شيء مثل القارب . بعد أسابيع من عمل شاق صنعت قاربي الكانو كبيراً إلى حد كاف ليستوعبني ويستوعب أي حمولة أريد أن أحملها معي .
كانت مشكلتي التالية هي كيف أصل به إلى الماء . كانت المسافة حوالي مائة ياردة من حيث صنعت قارب الكانو حتى البحر . خططت أن أحفر الرمل لأسمح للماء بالتدفق حو الكانو , فيطفو خارجاً إلى البحر بنفسه . بدأت أحفر قناة صغيرة بعرض ستة أقدام تقريباً وعمق أربعة أقدام . مع أن القناة استغرقت وقتاً طويلاً في حفرها , لم أضن على نفسي في الوقت والطاقة المبذولة في الحفر , بسبب أن لدي الآن قارب أستطيع أن أذهب إلى البحر به . أخيراً انتهت القناة وأصبحت قادراً على طفو قاربي الكانو في الخليج . صنعت سارية وشراعع أيضاً من بعض شراع السفينة القديمة , ووجدت بهذه أن قاربي الكانو يبر بشكل جيدٍ جداً . صنعت أيضاً بعض الخزائن الصغيرة لأتمكن من أخذ ما يكفي من طعام لرحلات أطول إذا رغبت في هذا . ثبَّتُّ مظلتي في مؤخرة القارب الكانو لتعطيني ملاذاً من الشمس وأنا أوجهه . كان هناك أيضاً رفٌّ لبندقيتي حيث كان من السهل الوصول إليها , لكن دون أن تتعرض لخطر إصابتها بالبلل .
حين جهزت كل شيء احتجته في قاربي الكانو , قررت أن أبحر حول الجزيرة . مأت خزائني بالطعام وانطلقت برحلتي في السادس من تشرين الثاني . كان علي أن أُبحر إلى مسافة أبعد مما توقعت , لأن الصخور في النهاية الشرقية من الجزيرة تمتد بعيداً داخل البحر . حين وصلت إلى أمام هذه الصخور رأيت أمامي خليجاً حيث كان الماء سلساً . وجهت قاربي الكانو نحو هذا الخليج , وعند الوصول إليه أحضرت قاربي لصق الشاطئ . ربطته إلى الشجرة , وأمضيت الليلة بين فروعها .
في الصباح بحثت عن خليج آخر حيث استطعت أن أُرسي قارباً في أمان بينما رُحتُ أستكشف المنطقة الريفية . كنت محظوظاً إلى حد كافٍ في أن أجد مرفأً مناسباً تماماً وليس بعيداً . استقر قاربي فيه , كأنه في رصيف رسو صُنع خصيصاً له .
عند الذهاب إلى الشاطئ اكتشفت أنني كنت قريباً تماماً من العمود الذي وضعته منتصباً في الرمل لأحدد بعلامة مكان رحلتي السابقة , ولذلك , كنتُ قرب منزلي في الوادي تماماً . حين وصلتُ إليه , كان من السار جداً أن أرى كل شيء مرتباً . تسبقت السياج , ودخلت المنزل وسرعان ما هيأت نفسي لأكون في بيتي .
بعد إقامة ثلاثة أيام اتجهت عائداً عبر الجزيرة . تركت قاربي الكانو في مرفأه , لأنني أردت أن أتأكد من حركت المد والجزر حول الجزيرة قبل أن أحاول أن أبحر عائداً . كنت قلقاً أيضاص في أن أصل البيت بأسرع ما أستطيع , حتى لا تأكل الطيور والأرانب البرية محصولي من الرز والشعير .
ذات يوم , ليس بوقت بعيد من هذا , سلكت طريقي إلى ذلك الجزء من الجزيرة حيث الصخور تمتد خارجة إلى البحر . وأنا أمشي فكرت بالمشهد العجيب الذي لابد أن أنظر إليه . حتى الآن , كانت كل ملابسي السليمة قد اهترأت تماماً , وقد صنعت بنفسي كل شيء كنت ألبسه . كانت الطاقية على رأسي مصنوعة من جلد الماعز وليس لها شكل مهما كان نوعه . كان لها رفرف يسقط على رقبتي ويقيني من الشمس والمطر . انسدلت السترة المصنوعة من جلد الماعز إلى أسفل الخصر , ولبست بنطالاً من المادة نفسها , انسدل حتى أسفل الركبتين .
لم يكن لدي حذاء ولا جوارب . حول خصري كان هناك حزام مع أنشوطتَيْن جلديتين حملت فيهما فأساً ومنشاراً . ارتفع حزام آخر أضيق فوق كتفي . كان فيه جيبان حيث احتفظت بمسحوق البارود وطلقة لبندقيتي . على ظهري حملت سلتي , وحملت بندقيتي على كتفي , وفوق كل هذا استقرت مظلتي المصنوعة من جلد الماعز .
وأنا ألبس عل هذا النحو شققت طريقي إلى الجزيرة وابتعدت عن البيت طيلة ستة أيام . حين بلغت مقصدي , رأيت أن البحر كان هادئاً وسلساً . لو اخترت الوقت اختياراً صحيحاً , وطبقاً لحركة المد والجزر , لما كان هناك سبب لعد إحضاري قاربي الكانو عائداً إلى هنا بأمان مرة أخرى .
الفصل الثامن
اكتشاف غريب
ذات يوم في حوالي الظهر , بينما كنت أمشي على شاطئ البحر , اكتشفت اكتشافاً غريباً جداً . انزعجت من رؤيتي آثار قدم رجل حافية في الرمل . وقفت كما لو كنتُ قد صُعقت برعد . أصغيت ونظرت حولي , لكن لم يكن هناك أيش شيء يُرى أو يسمع . تسلقت تلاً صغيراً لأرى إلى مسافة أبعد . صعدت إلى أعلى الشاطئ وأسفله , لكن لم يكن هناك أي علامة قدم أخرى تُرى . كيف حدث أن توجد هناك , لم أعرف , كما لم أستطع أن أتخيل هذا .
في طريقي إلى البيت توقفت كل خطوتين أو ثلاث خطوات لأنظر خلفي . تخيلت أن كل جذل شجرة في مكان بعيد كان متوحشاً ينتظرني . في تلك الليلة لم أستطع أن أنام للتفكير فيما قد رأيته . كيف وصل أثر ذلك القدم إلى هناك ؟ أي سفينة أتتي إلى الجزيرة ؟
قررت أن بعض المتوحشين أتوا من البر الرئيسي , وقد دفعتهم الريح إلى الجزيرة وأنهم رحلوا الآن . سررت سروراً عظيماً من أنهم لم يروني . ثم قلقت قلقاً كبيراً فيما إذا كانوا قد رأوا بيتي . إذا فكروا بأن شخصاً كان يعيش هناك , فلابد أنهم سيعودون بالتأكيد بأعداد أكبر ليدمروا بيتي ويحملوا حيواناتي معهم .
قررت أن أقوم بشيئين اثنين . في البداية كنت سأقوي الدفاعات حول منزلي . كنت سأفعل هذا ببناء جدار آخر خارج سوري الأول . ثانياً : أردت أن أحمي قطيعي من الماعز وأعثر على مكان آمن له ليعيش فيه .
بنيت السور الثاني , مستخدماً كل الخشب الإضافي الذي كان لدي . وقويته بباقي كوابل السفينة . خلف السور , حملت تراباً ودككته في موقعه إلى ارتفاع عشرة أقدام . في هذا السور فتحت سبع فتحات حتى أتمكن من أن أطلق النار دون أن أُرى أنا نفسي . حين انتهى السور غرست عدداً كبيراً من الأشجار الصغيرة في الخارج . نَمَت بسرعة كبيرة وكونت غابة كثيفة تماماً . أخفت بيتي عن البصر , حتى أنه كان من الصعب تصديق أن هناك أي شيء أو أي شخص خلفه .
لم يكن علي البحث طويلاً عن مكان لماعزي ليعيش فيه . سرعان ما عثرت على قطعة أرض مثالية في منتصف غابة كثيفة . سيَّجتها من جميع الجهات , وقبل مرور وقت طويل وضعت قطيعي ليعيش هناك .
ذات يوم , بينما كنت مشغولاً في البحث عن هذا المكان لماعزي , اقتربت من الساحل . نظرت إلى البحر وظننت أني رأيت سفينة . كانت على مسافة بعيدة , ولم أستطع أن أحدد طبيعتها , مع أنه كان لدي مرقاب . لم أعرف ما إذا كانت سفينة أو لا . بينما أنا أبتعد لم أستطع رؤيتها مرة أخرى لذلك كففت عن النظر , لكنني قررت أنني لن أخرج دون أن آخذ مرقابي معي .
في طريقي إلى البيت في ذلك اليوم سلكت طريقي على طول الشاطئ . هنا رأيت شيئاً ملأني في الرعب . جماجم وأيدي وأقدام وعظام بشرية كانت منتشرة على الرمل . رأيت أين كانت توجد نار وأين كان يجلس أولئك الذين كانوا يولمون لأكل ضحاياهم البؤساء .خفت خوفاً شديداً مما رأيت حتى أنني أشحت بوجهي بعيداً بعيداً عن المشهد الشنيع وسلكت طريقي إلى البيت بأسرع ما أستطيع .
أحسست بالأمان وأنا في البيت وأنا أعرف أن المتوحشين لم يأتوا إلى الجزيرة ليروا مي يمكنهم العثور عليه . بقيت هنا طيلة ثمانية عسشر سنة قبل أن حتى قد رأيت خطى أقدامهم .بوجود بيتي المخفي جيداً كان يمكنني أن أظل هنا لمدة ثمانية عشرة سنة أخرى ولن أُكتشف . مع هذا ظللت حذراً وخفت أن أطلق بندقياتي لبعض الوقت . من الآن فصاعداً لن أخرج دون أن أحمل بندقيتي وثلاث مسدسات . في حزامي حملت خنجراً طويلاً وعلى جنبي تدلى سيف . كنت هكذا جاهزاً لأن أقابل أي شخص يريد أن يهاجمني .
لم آخذ قاربي الكانو حول الجانب الأبعد من الجزيرة , فهذا بدا أنه الجانب الذي يستعملونه في أغلب الأوقات .
كنت أيضاً حريصاً على النيران التي أشعلها فأنا لم أرد أن يخون الدخان حضوري. اعتدت أن أطبخ طعامي وأخبز خبزي بنيران من الفحم . فعلت هذا في جزء موحش من الجزيرة كما رأيت هذا يجري في إنجلترا . ذات يوم , حين كنت أقطع بعض الخشب لأحرقه ولأكون منه فحماً , رأيت عينان لامعتين تراقبانني من أعماق كهف صغير . أخذت فرعاً محترقاً من النار ورفعته عالياً في الهواء لأرى إلى من تعود هاتين العينين . اطمأننت تماماً في أن أكتشف أنهما كانتا عيني ماعز عجوز جداً أتتي إلى الكهف لتموت . في اليوم التالي عدت إلى الكهف واستكشفته على نحو أكثر اكتمالاً . وجدت أنه سيكوِّن مكان اختباؤ مثالياً إذا احتجت إلى مكان كهذا في أي وقت من الأوقات . أقنعت نفسي أنني , حتى لو كان هناك خمسمائة متوحش يطاردونني , سأكون آمناً هنا .
كان الشهر الأول هو كانون الأول في سنتي الثالثة والعشرين في الجزيرة وكان حصادي جاهزاً مرة أخرى . كنت قد خرجت إلى حقولي لمدة طويلة من الزمن في النهار . ذات نهار , خرجت قبل أن يكون نور النهار قد بزغ تماماً ورأيت نور نار على الشاطئ على بعد ميلين . كانت هذه أول مرة يأتي فيها المتوحشون إلى جانبي من الجزيرة . لم أكن سعيداً إطلاقاً باكتشافي .
ذهبت مباشرة إلى بيتي وأعددت بندقياتي في حالة ما إذا هوجمت . توقعت أن يأتي المتوحشون في أي دقيقة . بعد ساعتين , حين لم يحدث أي شيء , ثار فضولي إلى حد أنني كان يجب أن أخرج . تسلقت التل خلف بيتي واستلقيت على بطني . رأيت أن هناك تسعة متوحشين يجلسون حول النار . افترضت أنهم يستعملونها لطبخ وجبتهم من اللحم البشري . كان معهما قاربا كانو جروهما جيداً إلى أعلى الشاطئ . فيما كان المد قد ابتعد في البحر عرفت أنه لابد أنهم ينتظرون هذه الحركة لتدخل الجزيرة الثانية . بعد لحظة نهض المتوحشون وبدأوا يرقصون حول النار . استمروا في الرقص مدة ساعة تقريباً , أثناءها تحول المد وبدأ يدخل الجزيرة ثانية . بعد ذلك بوقت قصير انطلقوا بقواربهم الكانو وجذفوا مبتعدين .
حالما ابتعدوا هبطت إلى الشاطئ . حولي تماماً ظهر مزيد من دليل سلوكهم المرعب . تناثرت عظام ودم ونتف من أجساد البشر في الرمل . كنت غاضباً جداً لدرجة أنني قررت أن أقضي على المجموعة التالية من المتوحشين الذين يأتون إلى جزيرتي , مهما كانت هويتهم .
بعد ذلك لم يزرني أحد من الزوار لعدة أشهر . في حوالي منتصف شهر أيار في السنة التالية حدث حادث أخرج المتوحشين من عقلي مؤقتاً . سمعت ما بدا لي أنه مثل صوت بندقية أطلقت على البحر . تسلقت التل بأسرع ما تمكن ونظرت إلى البحر . بعد وقت قصير انطلق وميض طبقة أخرى . من اتجاهها حددت أن الطلقة أتت من سفينة قرب الصخور عند نهاية الجزيرة . فيما أنا أفكر أن لابد أن توجد سفينة في محنة في الخارج , جمعت كل الخشب الجاف الذي أمكنني أن أجده . أشعلت ناراً جيدة على قمة التل وأبقيتها تحترق طيلة الليل .
حين عمَّ النور تمكنت من أن أتبين شيئ على بعد طويل في النهاية البعيدة من الجزيرة . كان الطقس مضبباً إلى حد ما ولم يكن مرقابي قوياً قوة كافية لأتمكن من أن أتبين ماذا كانت . خلال النهار نظرت إليها كثيراً , ولأنها لم تتحرك استنتجت أنها سفينة راسية بمرساة . كنت متلهفاً جداً , كما يمكنك أن تتخيل , لأكتشف المزيد عنها , وانطلقت في اتجاهها باقياً قرب الشاطئ .
وأنا أقترب وجدت أن السفينة كانت قد تحطمت على الصخور . أي خيبة أمل شعرت بها وأي حزن على أولئك الذين فقدوا أرواحهم شعرت به !
فكرت : " أوه , لو أن واحداً من الرجال أو اثنين أُنقذ من هذه السفينة . كم هو جيد لو كان هناك رفيق أتكلم إليه . "
طيلة الوقت كله الذي ظللت فيه في الجزيرة لم أشعر أبداً بالحاجة إلى رفيق إلى هذا الحد من الإلحاح كما شعرت الآن . كما لم آسف في السابق على عدم وجود أي شخص معي كأسفي الآن . بعد بضعة أيام مررت بتجربة حزينة في العثور على واحد من طاقم البحارة , ولد يافع , غريقاً على الشاطئ . في جيبه كانت توجد عملتان معدنيتان وغليون تبغ .
أردت أن أزور حطام هذه السفينة . فكرت أنه من الممكن أن أجد شخصاً حياً على ظهر السفينة . حتى إذا لم أجد شخصاً حياً لم يساورني شك بأنه سيكون هناك أشياء ذات نفع لي يمكنني أن أحضرها معي إلى البيت .
لكي أُعيد أكبر عدد ممكن من الحطام أخذت قاربي الكانو . كانت التيارات مناسبة وفي أقل من ساعتين وصلت إلى السفينة . كانت ذات مرة سفينة رائعة شُيِّدت في أسبانيا . استقرت الآن وقيدومها غارز بثبات بين صخرتين . كانت كلتا الساريتين مكسورتين وكانت المؤخرة كلها قد حُملت بعيداً .
حين اقتربت من السفينة ظهر كلب , نبح وصاح , وحالما ناديت عليه قفز إلى البحر وسبح إلى قاربي الكانو . حين أوصلته إلى ظهر قاربي الكانو وجدت أنه كان جائعاً وعطِشاً جداً . أعطيته بعض الخبز وبعض الماء , أنهاهما كليهما بسرعة بالغة .
بعد هذا صعدت إلى الحطام . كان أحد أوّل الأشياء التي رأيتها جسديْ رجلين غارقين في المطبخ . انطرحا حيث كانا قد سقطا وذراعا كل منهما حول الآخر . باستثناء الكلب لم يكن هناك أي شيء حي آخر على ظهر السفينة . كان كل الطعام قد تلف من ماء البحر . كل ما استطعت العثور عليه , مما فكرت أنه قد يكون نافعاً لي , صندوقان أخذتهما إلى قاربي الكانو .
حين فتحت الصندوين فيما بعد وجدت في أحدهما بعض النبيذ والحلوى وعدداً من قمصان بيض , ومناديل وبعض الأوشحة الملونة . إضافة إلى هذا , كان هناك ثلاثة أكياس تحتوي على عملات معدنية فضية . لابد أنه كان هناك ما يزيد عن ألف قطعة عملة معدنية في المجموع . كان هناك أيضاً بعض قضبان ذهب صغيرة . واحتوى الصندوق الآخر ملابس . لم يكن لدي من نفع للنقود , لكنكم يمكنكم تخيل كم كنت مسروراً في أن أجد الملابس
روبنسون كروزو يبني منزله
أخيراً وجدت مكاناً مناسباً أعيش فيه . كان سهلاً صغيراً على سفح تل . كان السهل يرتفع من التل حتى أن شيئاً لم يكن يمكن أن يهبط عليّ من أعلى . كانت الأرض المنبسطة على مسافة حوالي مائتي ياردة طولاً ومائة ياردة عرضاً . انحدرت النهاية الأقرب من البحر إلى الأسفل بلطف نحو الأرض المنخفضة المؤدية إلى الشاطئ . كان السهل على جانب التل , الذي كان محمياً من الشمس حتى المساء .
قبل أن أنصب خيمتي , وقفت وظهري إلى سفح التل , مواجهاً البحر . خطوت عشر خطوات للأمام ووضعت علامة . ثم عدت إلى موضعي السابق وخطوت عشر خطوات , أولاً إلى اليسار وبعدئذٍ إلى اليمين . جمعت هذه العلامات بحبل لتكوِّن نصف دائرة . حول طرف نصف الدائرة , وضعت صفين من أوتاد قوية . وقفت على بعد خمسة أقدام من الأرضية وكانت لها حافات حادة . ثم أخذت أطوال الكوابل , التي أخذتها من السفينة , ووضعتها في صفوف الأوتاد . أخيراً , قطعت بعض الأوتاد الأصغر ودفعت بها في داخل الأرض مكونة زاوية , حتى أنها تصرفت كدعائم لأوتاد أكبر . كان السياج الآن قويً جداً حتى أنه لم يكن أي إنسان أو أي حيوان يستطيع أن يصل من فوقه أو من خلاله . خلفي , كوَّن جانب التل المنحدر دفاعاً طبيعياً .
لم أضع فتحة باب كي أدخل إلى داخل الأوتاد , بل استعملت سلماً قصيراً لتسلق قمة السياج . حالما كنت أصل إلى الداخل كنت أرفع السلم ورائي , حتى أصبح محاطاً بالسياج وسالماً بالكامل . أحضرت إلى الداخل كل ذخيرتي , وطعامي وخزيني .
عملت خيمة كبيرة من شراع القنب ووضعت خيمة أصغر بداخلها , لكي أظلّ جافاً تماماً مهما كان المطر قاسياً . في الليل , كنت أنام مستريحاً جداً في شبكة نوم معلقة كانت تعود ذات مرة إلى أحد الضباط .
اعتدت كل يوم أن أخرج ببندقيتي , وسرعان ما اكتشفت أن هناك ماعزاً في الجزيرة . كانت خجولة جداً , تجري بسرعة , مما جعل من الصعب إطلاق النار عليها . لاحظت أنها لا تهرب بسرعة كبيرة , إذا كانت تتغذى في الوديان وأكون أنا على الصخور فوقها . بعد ذلك تسلقت دائماً الصخور أولاً . كانت الماعز الأولى التي أطلقت النار عليها وأصبتها ماعز أنثى إلى جانبها جدي صغير هو ابنها . حملت الماعز الصغير إلى بيتي على كتفي وحاولت أدجنه . لسوء الحظ لم يكن ليأكل أياً من الطعام الذي قدمته إليه , لذلك كان علي أن أقتله . زودني الماعزان بلحم طازج لبضعة أيام .
أدركت أنني سأفقد كل عدٍ للزمن إلا إذا عملت نوعاً ما من روزنامة . صنعت صليباً كبيراً من الخشب ووضعته على الشاطئ حيث رسوت . عليه نقشت الكلمات : " حللت على الشاطئ هنا في شهر أيلول الـ 30 في سنة 1659 " . على جوانب العمود القائم قطعت حزاً بسكيني كل يوم . في كل يوم سابع كنت أقطع حزاً بضعف طول هذا الطول . في اليوم الأول من كل شهر كنت أحز حزاً ضعف هذا الحز ثانية . على هذا النحو علمت مرور الزمن .
كانت هناك الكثير من الأشياء الأخرى أحضرتها من السفينة كان يجب أن أذكرها في وقت سابق . كان لدي الآن إمداد من أقلام حبر وورق . ثم أحضرت كل معدات إبحار السفينة , مثل البوصلات والخرائط البحرية . وجدت أيضاً ثلاثة أناجيل جيدة جداً أتتي مع حمولتي من إنجلترا . ولابد ألا أنسى أن أخبركم بأنني أنقذت قطتين وكلباً من السفينة . حملت القطتين إلى الشاطئ , بينما قفز الكلب في البحر وسبح حتى الشاطئ . كانت هذه المجموعة أصحابي في حياتي الموحشة .
جعل افتقاري للأدوات الصحيحة لأعمال أردت إنجازها عملي بطيئاً جداً . كانت قد مضت سنة قبل أن أكون قد أعددت بيتي كما أردته . بعد أن أكملت السياج أعددت نفسي لصنع طاولة وكرسي . ثم عملت بعض الأرفف على الصخرة في خلفية خيمتي , وأخيراً عملت حاملاً يمكنني تعليق بندقياتي عليه .
حين انتهيت سررت سروراً عظيماً في أن أرى كم من الأشياء الضرورية كانت لدي , وكيف رتبتها كلها على نحو جيد .
في حوالي هذا الوقت بدأت أحتفظ بمذكرات لما أفعله كل يوم . أُعيقت مهمتي في الكتابة بحقيقة أنه لم يك لدي أي شموع . حالما يحل الظلام , في حوالي السابعة عادة , كان علي أن آوي إلى الفراش . بعد بعض الوقت اكتشفت بأنني , بإبقائي بعض الدهن من أي ماعز أصيده , كان يمكنني أن أصنع مصباحاً , باستعمال قطعة صغيرة من حبل كفتيلة . قدم إلي هذا ما يكفي من نور لأصبح قادراً على أن أرى لأكتب مذكراتي , مع أنه لم يكن هناك في أي مكان تقريباً ما هو ساطع النور كشمعة .
ذات يوم , حين كنت أبحث عن شيء , عثرت صدفة على كيس صغير . في رحلتنا كنا قد حملنا بضع دجاجات , وكان هذا الكيس قد حمل الذرة لها لتأكلها . بدا أن معظم الذرة التي بقيت في الكيس قد أكلتها الفئران , لكن بعضها بقي في القاع . هززت البواقي على العشب خارج سياجي . كان هذا قبل أن يبدأ الموسم الممطر تماماً . بعد حوالي شهر لاحظت بعض الشتلات الخضر تبرز من الأرض . بعد وهلة قصيرة , اندهشت بأن رأيت بعد مدة تلك الشتلات تحولت إلى سوق شعير . حين نضج الحب فيما بعد احتفظت به بعناية وخططت أن أزرعه في السنة التالية . فعلت هذا لمدة سنين عديدة ومن ثم وجدت بأن لدي ما يكفي من الشعير لأصبح قادراً على استعمال بعضه لأغراض الخاصة . فعلت نفس الشيء مع بعض الرز الذي وجدته , ومع الشعير أصبحت قادراً على صنع بعض الخبز وبعض كعك الرز
الفصل السادس
روبنسون كروو يبدأ في اكتشاف جزيرته
في الخامس عشر من حزيران , بعد أن ظللت الجزيرة عشرة أشهر , بدأت أستكشف جزيرتي . في البداية ذهبت إلى أعلى النهر حيث كنت قد أحضرت طوفي إلى الشاطئ لأول مرة . يصبح النهر على مسافة ميلين من أعلى التيار , أصغر كثيراً والماء ندياً وصافياً . وفي اليوم التالي قطعت حتى مسافة أبعد داخل الجزيرة ووجدت أن المنطقة قد أصبحت مكسوة بالأشجار . كانت تنمو أنواع متنوعة من الفاكهة , بما في هذا البطيخ والأعناب . أكلت بعض هذه الفاكهة ووفرت بعض الأعناب , على نحو خاص , لآكلها فيما بعد . جففت بعض الأعناب في الشمس , حتى أحصل على زبيب آكله حين لا تكون هناك فاكهة طازجة في الجوار .
لم أعد للبيت في تلك الليلة لكنني نمت , كما نمت في ليلتي الأولى في الجزيرة , على شجرة . في الصباح التالي مشيت حوالي أربعة أميال وحللت في أجمل الوديان . هنا كان يوجد ينبوع صغير وبدا كل مكان أخضر ومبهجاً للنفس . بدا تقريباً مثل حديقة زُرعت خصيصاً بالفاكهة والأزهار .
أحببت المكان كثيراً جداً حتى أنني غالباً ما عدت هنا حخلال شهر تموز . فكرت تقريباً بالعيش هنا على نحو دائم , لكنني قررت ضد هذا حيث أن الوادي كان بعيداً جداً عن الشاطئ . بدلاً من هذا , قررت أن أبني مأوى صغيراً حتى يمكنني أن آتي وأبقى حينما أحب .
بدأت العمل على الفور , بانياً إياه حسب تصميم بيتي الأول . كان له سياج حوله كله وكنت أدخل إليه عن طريق سلم . بحلول بداية شهر آب كان العمل قد انتهى . كانت الأعناب التي جنعتها في وقت مبكر قد أصبحت الآن جافة تماماً , وأنزلت الكتل من على الشجرة حيث كانت معلقة . حين عدت إلى بيتي على الساحل أخذت معي بعض الزبيب . كنت مسروراً جداً بأنني فعلت هذا لأن السماء بدأت تمطر مطراً غزيراً بعد أسبوعين . أمطرت كل يوم بعد ذلك إلى منتصف شهر تشرين . أحياناً أمطرت بغزارة شديدة حتى أنني لم أستطع طيلة أيام بلا انقطاع أن أترك بيتي .
حالما توقفت الأمطار وأصبح الطقس مستقراً , قمت برحلة مرة أخرى إلى أعلى النهر . في الوادي وجدت كل شيء تماماً كما تركته . كانت الأوتاد , التي غرستها داخل الأرض , قد امتدت جذورها وحلت الشتلات الخضر في كل مكان يرى . مع مرور الأيام , أصبحت قادراً على تقليمها حتى أن بيتي أصبح محاطاً بسياج طويل أخضر . قررت أن أقطع بعض المزيد من الأوتاد لأعود بها إلى الساحل معي , لأرى ما إذا كان يمكنني أن أزلاع سياجاً مشابهاً حول بيتي الأول . استعلمت الفروع الأصغر من هذه الأوتاد لحبك سلاسل . كانت محاولاتي الأولى في هذا خاماً إلى حد ما , لكن بعد وقت أصبحت قادراً على أن أصنع سلة خدمت غرضي جيداً إلى حد كاف .
أردت أن أرى كيف يبدو الجانب الآخر من الجزيرة . لذلك أخذت بندقيتي , والفأس والكلب , وكمية من الطعام وانطلقت . حين كنت قد سافرت لبعد كافٍ لأرى الساحل , رأيت بأن هناك جزيرة أخرى على بعد حوالي عشرين ميلاً . عند لالوصول إلى الشاطئ الآخر من الجزيرة , سرعان ما وصلت إلى استنتاج أن هذا سيكون أفضل جانب للجزيرة للعيش فيه .
هناك بدا أنه يوجد عدد كبير من السلاحف على الشاطئ . على جانبي من الجزيرة رأيت ثلاث سلاحف فقط طيلة إقامتي كلها .وُجد أيضاً كثيراً من الطيور هنا , بما في هذا بعض ما منها ميزت كطيور بطريق . كان هناك المزيد من الماعز أيضاً , لكن , ولأن المنطقة كانت منبسطة , كان من الأصعب علي أن أصيدها بإطلاق النار عليها . استكشفت الشاطئ لمسافة اثني عشر ميلاً قبل أن أعود . نصبت عموداً كبيراً في الرمل لأحدد بعلامة أين كنت قد وصلت , وقررت أن أمشي حول الجزيرة في الاتجاه الآخر في تاريخ لاحق إلى أن أقابل عمودي .
أخيراً سلكت طريقي عائداً إلى بيتي الذي سررت كثيراً جداً في أن أراه ثانية . كنت الآن في الجزيرة لمدة سنتين دون أن تظهر علامة تدل على منقذ .
كنت أتوق للحصول على محصول جيد من الشعير والرز بعد موسم المطر . كان علي أولاً أن أتعامل مع نمطين من الأعداء . عدد من مخلوقات طويلة الأرجل , بدوْ مثل أرانب برية ظهرت وكانت ستأكل كل الشتلات الخضراء . سرعان ما عملت سياجاً أحاط بالمحصول , وفي الليل ربطت كلبي به . أبعد هذا الأرانب البرية , وما كدت أن أنهي السياج حتى بدأت أسراب طيور في الهجوم على الحب قبل أن ينضج . كان التعامل معها أصعب بكثير من التعامل مع الأرانب البرية . حين أطلقت نار بندقيتي ابتعدت , لكن إلى مسافة تصل إلى الأشجار . ما كان ظهري يستدير حتى تعود كلها طائرة إلى الحقل .
قررت أنني سأعلق أجسام الطيور التي أصطادهل على الحقل . أملت أن يخيف هذا الطيور الأخرى ويبعدها . لدهشتي وفرحتي هذا ما حدث ولم أعد أنزعج من الطيور ثانية . لذلك , وفي نهاية شهر كانون الأول أصبحت قادراً على حصد غلتي وجمعت في كيسين رزاً في كيسين ونصف كيس شعيراً . كنت راضياً جداً من هذا المحصول .
خلال موسم المطر أبقيت نفسي منشغلاً بكل أنواع التجارب . كانت واحدة من هذه التجارب صنع قوارير وجرار أخزِّن فيها الطعام والماء . فكرت أنني إذا وجدت مزيداً من الصلصال فسأتمكن من صنع بضع جرار . أملت أن الجرار , حين تحمَّص , ستكون قوية قوة كافية وقاسية تماماً لأستعملها . في البداية , تفتت الثير من جراري , فلم يكن الصلصال قاسياً إلى حد كافٍ لحمل ثقلها نفسه . تشققت جرار أخرى لأنني أبقيتها في الخارج في الشمس مدة طويلة جداً . بعد شهرين من العمل الشاق تمكنت من صنع جرتين كبيرتين . كانتا غير جيدتي الشكل وقبيحتين , لكنني كنت قادراً على استخدامها لخزن الحبوب .
لكنهما لم تستوعبا الماء . كيف يمكن فعل هذا ؟ فكرت بالمشكلة لمدة طويلة من الزمن وبعدئذٍ توصلت إلى الحل بالصدفة . ذات يوم أشعلت ناراً كبيرة لأتمكن من طبخ بعض لحم الماعز . بعد أن أنهيت الطبخ لاحظت قطعة مكسورة من الفخار في النار . كانت قد احترقت وتقسّت وأصبحت كحجر وكانت حمراء كطوبة . جعلني هذا أفكر كيف يمكنني أن أفكر كيف يمكنني ترتيب ناري حتى أحمص الفخاريات كلها .
في المرة التالية التي حاولت فيها صنع الفخار رتبت ناري حولها . ظللت أضع المزيد والمزيد من الخشب على النار إلى أن رأيت بأن الفخار أصبح ساخناً إلى درجة الاحمرار . أبقيتها في تلك الحرارة لخمس ساعات ثم وببطء تركت النار تخمد . راقبت الفخار طيلة الليل حتى لا تخمد النار بسرعة أكثر من اللازم . في الصباح وجدت أنني في هذه المرة صنعت بعض أوعية طبخ فخارية جيدة جداً , وإن لم تكن جميلة . كنت مسروراً جداً بعملي حتى أنني بالكاد انتظرت حتى بردت الأوعية الفخارية قبل أن أختبرها . ملأت واحدة من الأوعية الفخارية بالماء حالما بردت , وغليت الماء . لم يتسرب الماء من الوعاء , فأضفت بعض اللحم ووجدت أنني يمكنني أن أصنع حساءً جيداً جداً . الآن وقد أصبح لدي الكثير جداً من الحبوب أصبحت قادراً على أن أصنع خبزاً . احتجت إلى هاون لسحب الحبوب . لم أستطع أن أجد حجراً مناسباً لذلك استعملت كتلة من خشب قاس جداً . عملت تجويفاً صغيراً في وسطها بحرق الخشب وصنعت مطرقة من خشب معروف بخشب الحديد .
كانت مشكلتي التالية هي فصل القشرة عن الدقيق . أخيراً وجدت بعض القماش المصلي بين رزمة القماش التي أحضرتها من السفينة .
وقامت هذه بعمل منخل لعدة سنين .
كنت الآن مستعداً تماما لأبدأ الخبز ، لكن كان علي أولاً أن أضع تصميم فرن . هذا ما فعلته . صنعت مدفأة من آجر خبزته بنفسي . ثم صنعت بعض الأغطية الفخارية بطول حوالي قدمين وعرض تسعة بوصات . أشعلت ماراً عللى الآجر إلى أن أصبحت ساخنة حقاً . ثم كنست النار وأبعدتها ووضعت خبزي على الآجر وغطيتها كلها . ثم أشعلت النار حولها لها وتركت الخبز يُخبز . وجدت أنني يمكنني , بهذه الطريقة , أن أصنع لا خبزاً فقط بل معجنة أيضاً .
الفصل السابع
روبنسون كروزو يبني قارباً
بدأت ملابسي تتساقط قطعاً متناثرة . كان لدي الوفير من القمصان لكنني كنت أفتقر إلى البناطيل وسترات قصيرة . حل الوقت الآن كي أحاول مهارتي كخياط . كان لدي عدد من جلد الماعز أخذته من الحيوانات التي قنصتها بطلق النار عليها . مططت هذه الجلود وجعلتها تجف في الشمس . كان أول شيء صنعته هو قبعة , قم سترة وبنطالاً , ناسبتني هذه على نحو سيئ جداً لكنها أبقتني بارداً في الطقس الحار وجافاً في المطر . أنفقت الكثير من الوقت والجهد في صنع مظلة . كنت قد رأيتها تُصنع في البرازيل لكنني قمت بعدة محاولات قبل أن أنجح . المشكلة كانت أن أصنع مظلة تُطوى على الفور حين تُرفع . أخيراً أصبحت قادراً على صنع إطار سيهبط بها , وغطيته بجلد ماعز . أمكنني الآن أن أخرج , ليس فقط حين كانت تمطر , بل أيضاً في الضقس الأكثر حرارة .
طيلة هذا الوقت لم تبتعد فكرة الهرب من الجزيرة أبداً عن عقلي . تمنيت لو ظل قصوري معي وقارب الصيد بالشراع الطويل . كنت قد أبحرت تقريباً مسافة ألف ميل على طول الساحل الإفريقي فيه . ذكرني هذا بأحد قوارب سفينتنا الذي اكتُسح ودُفع إلى الشاطئ في جزء آخر من الجزيرة . فكرت بأنني سأذهب وأُلقي نظرة لأرى إن كان يمكن أن يُصلح . كان القارب لا سزال في الرمل حيث كانت العاصفة قد تركته . كان قد قُلب وفيه ثُقب كبير في أحد جوانبه . سرعان ما رأيت أنه يمكن أن يُستخدم بعد وقت قصير .
لذلك قلبت أفكاري في صنع ( كانو ) من جذع شجرة كبيرة . كنت متلهفاً جداً في صنع هذا الكانو حتى أنني لم أكف عن النفكير بالصعوبات التي قد تواجهني . لم يخطر ببالي أنني قد لا أكون قادراً على تنفيذ التصميم . ولم أفكر كيف يمكن أن أوصل قارب الكانو إلى داخل الماء حين أُنهيه .
وجدت شجرة أرز هائلة الحجم بعرض ستة أقدام عند قاع الجذع . بالأدوات البسيطة التي كانت لدي , استغرقت وقتاً طويلاً في قطع الشجرة وقطع كل الفروع . حين فعلت ذلك كانت لا تزال هناك مهمة تشكيل الجذع إلى شيء مثل القارب . بعد أسابيع من عمل شاق صنعت قاربي الكانو كبيراً إلى حد كاف ليستوعبني ويستوعب أي حمولة أريد أن أحملها معي .
كانت مشكلتي التالية هي كيف أصل به إلى الماء . كانت المسافة حوالي مائة ياردة من حيث صنعت قارب الكانو حتى البحر . خططت أن أحفر الرمل لأسمح للماء بالتدفق حو الكانو , فيطفو خارجاً إلى البحر بنفسه . بدأت أحفر قناة صغيرة بعرض ستة أقدام تقريباً وعمق أربعة أقدام . مع أن القناة استغرقت وقتاً طويلاً في حفرها , لم أضن على نفسي في الوقت والطاقة المبذولة في الحفر , بسبب أن لدي الآن قارب أستطيع أن أذهب إلى البحر به . أخيراً انتهت القناة وأصبحت قادراً على طفو قاربي الكانو في الخليج . صنعت سارية وشراعع أيضاً من بعض شراع السفينة القديمة , ووجدت بهذه أن قاربي الكانو يبر بشكل جيدٍ جداً . صنعت أيضاً بعض الخزائن الصغيرة لأتمكن من أخذ ما يكفي من طعام لرحلات أطول إذا رغبت في هذا . ثبَّتُّ مظلتي في مؤخرة القارب الكانو لتعطيني ملاذاً من الشمس وأنا أوجهه . كان هناك أيضاً رفٌّ لبندقيتي حيث كان من السهل الوصول إليها , لكن دون أن تتعرض لخطر إصابتها بالبلل .
حين جهزت كل شيء احتجته في قاربي الكانو , قررت أن أبحر حول الجزيرة . مأت خزائني بالطعام وانطلقت برحلتي في السادس من تشرين الثاني . كان علي أن أُبحر إلى مسافة أبعد مما توقعت , لأن الصخور في النهاية الشرقية من الجزيرة تمتد بعيداً داخل البحر . حين وصلت إلى أمام هذه الصخور رأيت أمامي خليجاً حيث كان الماء سلساً . وجهت قاربي الكانو نحو هذا الخليج , وعند الوصول إليه أحضرت قاربي لصق الشاطئ . ربطته إلى الشجرة , وأمضيت الليلة بين فروعها .
في الصباح بحثت عن خليج آخر حيث استطعت أن أُرسي قارباً في أمان بينما رُحتُ أستكشف المنطقة الريفية . كنت محظوظاً إلى حد كافٍ في أن أجد مرفأً مناسباً تماماً وليس بعيداً . استقر قاربي فيه , كأنه في رصيف رسو صُنع خصيصاً له .
عند الذهاب إلى الشاطئ اكتشفت أنني كنت قريباً تماماً من العمود الذي وضعته منتصباً في الرمل لأحدد بعلامة مكان رحلتي السابقة , ولذلك , كنتُ قرب منزلي في الوادي تماماً . حين وصلتُ إليه , كان من السار جداً أن أرى كل شيء مرتباً . تسبقت السياج , ودخلت المنزل وسرعان ما هيأت نفسي لأكون في بيتي .
بعد إقامة ثلاثة أيام اتجهت عائداً عبر الجزيرة . تركت قاربي الكانو في مرفأه , لأنني أردت أن أتأكد من حركت المد والجزر حول الجزيرة قبل أن أحاول أن أبحر عائداً . كنت قلقاً أيضاص في أن أصل البيت بأسرع ما أستطيع , حتى لا تأكل الطيور والأرانب البرية محصولي من الرز والشعير .
ذات يوم , ليس بوقت بعيد من هذا , سلكت طريقي إلى ذلك الجزء من الجزيرة حيث الصخور تمتد خارجة إلى البحر . وأنا أمشي فكرت بالمشهد العجيب الذي لابد أن أنظر إليه . حتى الآن , كانت كل ملابسي السليمة قد اهترأت تماماً , وقد صنعت بنفسي كل شيء كنت ألبسه . كانت الطاقية على رأسي مصنوعة من جلد الماعز وليس لها شكل مهما كان نوعه . كان لها رفرف يسقط على رقبتي ويقيني من الشمس والمطر . انسدلت السترة المصنوعة من جلد الماعز إلى أسفل الخصر , ولبست بنطالاً من المادة نفسها , انسدل حتى أسفل الركبتين .
لم يكن لدي حذاء ولا جوارب . حول خصري كان هناك حزام مع أنشوطتَيْن جلديتين حملت فيهما فأساً ومنشاراً . ارتفع حزام آخر أضيق فوق كتفي . كان فيه جيبان حيث احتفظت بمسحوق البارود وطلقة لبندقيتي . على ظهري حملت سلتي , وحملت بندقيتي على كتفي , وفوق كل هذا استقرت مظلتي المصنوعة من جلد الماعز .
وأنا ألبس عل هذا النحو شققت طريقي إلى الجزيرة وابتعدت عن البيت طيلة ستة أيام . حين بلغت مقصدي , رأيت أن البحر كان هادئاً وسلساً . لو اخترت الوقت اختياراً صحيحاً , وطبقاً لحركة المد والجزر , لما كان هناك سبب لعد إحضاري قاربي الكانو عائداً إلى هنا بأمان مرة أخرى .
الفصل الثامن
اكتشاف غريب
ذات يوم في حوالي الظهر , بينما كنت أمشي على شاطئ البحر , اكتشفت اكتشافاً غريباً جداً . انزعجت من رؤيتي آثار قدم رجل حافية في الرمل . وقفت كما لو كنتُ قد صُعقت برعد . أصغيت ونظرت حولي , لكن لم يكن هناك أيش شيء يُرى أو يسمع . تسلقت تلاً صغيراً لأرى إلى مسافة أبعد . صعدت إلى أعلى الشاطئ وأسفله , لكن لم يكن هناك أي علامة قدم أخرى تُرى . كيف حدث أن توجد هناك , لم أعرف , كما لم أستطع أن أتخيل هذا .
في طريقي إلى البيت توقفت كل خطوتين أو ثلاث خطوات لأنظر خلفي . تخيلت أن كل جذل شجرة في مكان بعيد كان متوحشاً ينتظرني . في تلك الليلة لم أستطع أن أنام للتفكير فيما قد رأيته . كيف وصل أثر ذلك القدم إلى هناك ؟ أي سفينة أتتي إلى الجزيرة ؟
قررت أن بعض المتوحشين أتوا من البر الرئيسي , وقد دفعتهم الريح إلى الجزيرة وأنهم رحلوا الآن . سررت سروراً عظيماً من أنهم لم يروني . ثم قلقت قلقاً كبيراً فيما إذا كانوا قد رأوا بيتي . إذا فكروا بأن شخصاً كان يعيش هناك , فلابد أنهم سيعودون بالتأكيد بأعداد أكبر ليدمروا بيتي ويحملوا حيواناتي معهم .
قررت أن أقوم بشيئين اثنين . في البداية كنت سأقوي الدفاعات حول منزلي . كنت سأفعل هذا ببناء جدار آخر خارج سوري الأول . ثانياً : أردت أن أحمي قطيعي من الماعز وأعثر على مكان آمن له ليعيش فيه .
بنيت السور الثاني , مستخدماً كل الخشب الإضافي الذي كان لدي . وقويته بباقي كوابل السفينة . خلف السور , حملت تراباً ودككته في موقعه إلى ارتفاع عشرة أقدام . في هذا السور فتحت سبع فتحات حتى أتمكن من أن أطلق النار دون أن أُرى أنا نفسي . حين انتهى السور غرست عدداً كبيراً من الأشجار الصغيرة في الخارج . نَمَت بسرعة كبيرة وكونت غابة كثيفة تماماً . أخفت بيتي عن البصر , حتى أنه كان من الصعب تصديق أن هناك أي شيء أو أي شخص خلفه .
لم يكن علي البحث طويلاً عن مكان لماعزي ليعيش فيه . سرعان ما عثرت على قطعة أرض مثالية في منتصف غابة كثيفة . سيَّجتها من جميع الجهات , وقبل مرور وقت طويل وضعت قطيعي ليعيش هناك .
ذات يوم , بينما كنت مشغولاً في البحث عن هذا المكان لماعزي , اقتربت من الساحل . نظرت إلى البحر وظننت أني رأيت سفينة . كانت على مسافة بعيدة , ولم أستطع أن أحدد طبيعتها , مع أنه كان لدي مرقاب . لم أعرف ما إذا كانت سفينة أو لا . بينما أنا أبتعد لم أستطع رؤيتها مرة أخرى لذلك كففت عن النظر , لكنني قررت أنني لن أخرج دون أن آخذ مرقابي معي .
في طريقي إلى البيت في ذلك اليوم سلكت طريقي على طول الشاطئ . هنا رأيت شيئاً ملأني في الرعب . جماجم وأيدي وأقدام وعظام بشرية كانت منتشرة على الرمل . رأيت أين كانت توجد نار وأين كان يجلس أولئك الذين كانوا يولمون لأكل ضحاياهم البؤساء .خفت خوفاً شديداً مما رأيت حتى أنني أشحت بوجهي بعيداً بعيداً عن المشهد الشنيع وسلكت طريقي إلى البيت بأسرع ما أستطيع .
أحسست بالأمان وأنا في البيت وأنا أعرف أن المتوحشين لم يأتوا إلى الجزيرة ليروا مي يمكنهم العثور عليه . بقيت هنا طيلة ثمانية عسشر سنة قبل أن حتى قد رأيت خطى أقدامهم .بوجود بيتي المخفي جيداً كان يمكنني أن أظل هنا لمدة ثمانية عشرة سنة أخرى ولن أُكتشف . مع هذا ظللت حذراً وخفت أن أطلق بندقياتي لبعض الوقت . من الآن فصاعداً لن أخرج دون أن أحمل بندقيتي وثلاث مسدسات . في حزامي حملت خنجراً طويلاً وعلى جنبي تدلى سيف . كنت هكذا جاهزاً لأن أقابل أي شخص يريد أن يهاجمني .
لم آخذ قاربي الكانو حول الجانب الأبعد من الجزيرة , فهذا بدا أنه الجانب الذي يستعملونه في أغلب الأوقات .
كنت أيضاً حريصاً على النيران التي أشعلها فأنا لم أرد أن يخون الدخان حضوري. اعتدت أن أطبخ طعامي وأخبز خبزي بنيران من الفحم . فعلت هذا في جزء موحش من الجزيرة كما رأيت هذا يجري في إنجلترا . ذات يوم , حين كنت أقطع بعض الخشب لأحرقه ولأكون منه فحماً , رأيت عينان لامعتين تراقبانني من أعماق كهف صغير . أخذت فرعاً محترقاً من النار ورفعته عالياً في الهواء لأرى إلى من تعود هاتين العينين . اطمأننت تماماً في أن أكتشف أنهما كانتا عيني ماعز عجوز جداً أتتي إلى الكهف لتموت . في اليوم التالي عدت إلى الكهف واستكشفته على نحو أكثر اكتمالاً . وجدت أنه سيكوِّن مكان اختباؤ مثالياً إذا احتجت إلى مكان كهذا في أي وقت من الأوقات . أقنعت نفسي أنني , حتى لو كان هناك خمسمائة متوحش يطاردونني , سأكون آمناً هنا .
كان الشهر الأول هو كانون الأول في سنتي الثالثة والعشرين في الجزيرة وكان حصادي جاهزاً مرة أخرى . كنت قد خرجت إلى حقولي لمدة طويلة من الزمن في النهار . ذات نهار , خرجت قبل أن يكون نور النهار قد بزغ تماماً ورأيت نور نار على الشاطئ على بعد ميلين . كانت هذه أول مرة يأتي فيها المتوحشون إلى جانبي من الجزيرة . لم أكن سعيداً إطلاقاً باكتشافي .
ذهبت مباشرة إلى بيتي وأعددت بندقياتي في حالة ما إذا هوجمت . توقعت أن يأتي المتوحشون في أي دقيقة . بعد ساعتين , حين لم يحدث أي شيء , ثار فضولي إلى حد أنني كان يجب أن أخرج . تسلقت التل خلف بيتي واستلقيت على بطني . رأيت أن هناك تسعة متوحشين يجلسون حول النار . افترضت أنهم يستعملونها لطبخ وجبتهم من اللحم البشري . كان معهما قاربا كانو جروهما جيداً إلى أعلى الشاطئ . فيما كان المد قد ابتعد في البحر عرفت أنه لابد أنهم ينتظرون هذه الحركة لتدخل الجزيرة الثانية . بعد لحظة نهض المتوحشون وبدأوا يرقصون حول النار . استمروا في الرقص مدة ساعة تقريباً , أثناءها تحول المد وبدأ يدخل الجزيرة ثانية . بعد ذلك بوقت قصير انطلقوا بقواربهم الكانو وجذفوا مبتعدين .
حالما ابتعدوا هبطت إلى الشاطئ . حولي تماماً ظهر مزيد من دليل سلوكهم المرعب . تناثرت عظام ودم ونتف من أجساد البشر في الرمل . كنت غاضباً جداً لدرجة أنني قررت أن أقضي على المجموعة التالية من المتوحشين الذين يأتون إلى جزيرتي , مهما كانت هويتهم .
بعد ذلك لم يزرني أحد من الزوار لعدة أشهر . في حوالي منتصف شهر أيار في السنة التالية حدث حادث أخرج المتوحشين من عقلي مؤقتاً . سمعت ما بدا لي أنه مثل صوت بندقية أطلقت على البحر . تسلقت التل بأسرع ما تمكن ونظرت إلى البحر . بعد وقت قصير انطلق وميض طبقة أخرى . من اتجاهها حددت أن الطلقة أتت من سفينة قرب الصخور عند نهاية الجزيرة . فيما أنا أفكر أن لابد أن توجد سفينة في محنة في الخارج , جمعت كل الخشب الجاف الذي أمكنني أن أجده . أشعلت ناراً جيدة على قمة التل وأبقيتها تحترق طيلة الليل .
حين عمَّ النور تمكنت من أن أتبين شيئ على بعد طويل في النهاية البعيدة من الجزيرة . كان الطقس مضبباً إلى حد ما ولم يكن مرقابي قوياً قوة كافية لأتمكن من أن أتبين ماذا كانت . خلال النهار نظرت إليها كثيراً , ولأنها لم تتحرك استنتجت أنها سفينة راسية بمرساة . كنت متلهفاً جداً , كما يمكنك أن تتخيل , لأكتشف المزيد عنها , وانطلقت في اتجاهها باقياً قرب الشاطئ .
وأنا أقترب وجدت أن السفينة كانت قد تحطمت على الصخور . أي خيبة أمل شعرت بها وأي حزن على أولئك الذين فقدوا أرواحهم شعرت به !
فكرت : " أوه , لو أن واحداً من الرجال أو اثنين أُنقذ من هذه السفينة . كم هو جيد لو كان هناك رفيق أتكلم إليه . "
طيلة الوقت كله الذي ظللت فيه في الجزيرة لم أشعر أبداً بالحاجة إلى رفيق إلى هذا الحد من الإلحاح كما شعرت الآن . كما لم آسف في السابق على عدم وجود أي شخص معي كأسفي الآن . بعد بضعة أيام مررت بتجربة حزينة في العثور على واحد من طاقم البحارة , ولد يافع , غريقاً على الشاطئ . في جيبه كانت توجد عملتان معدنيتان وغليون تبغ .
أردت أن أزور حطام هذه السفينة . فكرت أنه من الممكن أن أجد شخصاً حياً على ظهر السفينة . حتى إذا لم أجد شخصاً حياً لم يساورني شك بأنه سيكون هناك أشياء ذات نفع لي يمكنني أن أحضرها معي إلى البيت .
لكي أُعيد أكبر عدد ممكن من الحطام أخذت قاربي الكانو . كانت التيارات مناسبة وفي أقل من ساعتين وصلت إلى السفينة . كانت ذات مرة سفينة رائعة شُيِّدت في أسبانيا . استقرت الآن وقيدومها غارز بثبات بين صخرتين . كانت كلتا الساريتين مكسورتين وكانت المؤخرة كلها قد حُملت بعيداً .
حين اقتربت من السفينة ظهر كلب , نبح وصاح , وحالما ناديت عليه قفز إلى البحر وسبح إلى قاربي الكانو . حين أوصلته إلى ظهر قاربي الكانو وجدت أنه كان جائعاً وعطِشاً جداً . أعطيته بعض الخبز وبعض الماء , أنهاهما كليهما بسرعة بالغة .
بعد هذا صعدت إلى الحطام . كان أحد أوّل الأشياء التي رأيتها جسديْ رجلين غارقين في المطبخ . انطرحا حيث كانا قد سقطا وذراعا كل منهما حول الآخر . باستثناء الكلب لم يكن هناك أي شيء حي آخر على ظهر السفينة . كان كل الطعام قد تلف من ماء البحر . كل ما استطعت العثور عليه , مما فكرت أنه قد يكون نافعاً لي , صندوقان أخذتهما إلى قاربي الكانو .
حين فتحت الصندوين فيما بعد وجدت في أحدهما بعض النبيذ والحلوى وعدداً من قمصان بيض , ومناديل وبعض الأوشحة الملونة . إضافة إلى هذا , كان هناك ثلاثة أكياس تحتوي على عملات معدنية فضية . لابد أنه كان هناك ما يزيد عن ألف قطعة عملة معدنية في المجموع . كان هناك أيضاً بعض قضبان ذهب صغيرة . واحتوى الصندوق الآخر ملابس . لم يكن لدي من نفع للنقود , لكنكم يمكنكم تخيل كم كنت مسروراً في أن أجد الملابس